خلصنا في المقال السابق إلى النتيجة التالية: لا يطعن في حقوق الإنسان كون من ينادي بها لا يحترمها. إن حقوق الإنسان هي حق. والحق حق في نفسه، سواء كان حقيقة علمية أو خصالا سلوكية.
قد تبدو هذه النتيجة بديهية في منأى عن كل شك أو اعتراض؛ غير أن الأمر ليس كذلك، فالقول بأن "الحق حق في نفسه" هي وجهة نظر وليست حقيقة علمية. ذلك أن لمعترض أن يعترض: إذا كان الحق حقاً في نفسه فلماذا يختلف الناس في "الحق" ، المعرفي والسلوكي، من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر؟
في عصرنا ومجتمعاتنا يعتبر الحق في الحرية من أقدس الحقوق وبالتالي يقتضي احترام حقوق الإنسان، أول ما يقتضي، والمنطق في ذلك إلغاء الرق وتحريمه. ومعلوم أنه لم يكن الأمر هكذا في جميع العصور ولا في جميع الحضارات. ففي العصور القديمة كان الرق شيئاً طبيعياً، كان حقاً. كان "الحق" في جانب السيد ولم يكن في جانب العبد. وأكثر من ذلك لم يكن للعبد الحق في المطالبة بالحق. كان العبد يقع خارج فضاء الحقوق. كان فضاؤه يتكون من الواجب وحده.
ويجب ألا نجعل المسافة الزمنية التي تفصل بيننا وبين العصور "القديمة" هي المسؤولة عن هذا الغياب للحق عن فضاء العبيد. هناك غياب مماثل غير بعيد يعاني منه فضاء المرأة مثلا. فحق الانتخاب لم يمنح للمرأة إلا منذ فترة وجيزة في بريطانيا مهد المناداة بـ"حقوق الإنسان" بالمعنى المعاصر. وما زال هذا الحق مرفوضاً في بلدان كثيرة.
ويمكن الذهاب في الاعتراض على وجهة النظر القائلة "الحق حق في نفسه" إلى أبعد من ذلك. يمكن التساؤل مثلا: إذا كان الحق حقاً في نفسه فلماذا يقبل الناس التمييز بين الحقوق، أقصد ما يشبه "التمييز العنصري"! يحتج الناس اليوم على التضييق على حرية التعبير مثلا، ولا يقبلون ما قد يدلي به المضيِّق عليها من تبريرات حتى ولو كانت معقولة من زاوية كون الممارس لحرية التعبير أضر بحرية غيره. ولكن كثيراً من الناس هم أقل احتجاجاً، أو لا يحتجون بالمرة، على حكم الإعدام الذي يقضي قضاء مبرماً على أول حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة. والغالب أن السكوت عن الإعدام يبرر بكونه جزاءً على جريمة القتل، وهي إلحاق الضرر بحق الحياة لدى الغير. وهذا يعني أن أول حقوق الإنسان، أعني الحق في الحياة، ليس حقاً في نفسه، ليس حقاً مطلقاً، بل هو مقيد بـ الواجب" الذي يعني هنا عدم المس بحق الغير.
بعبارة قصيرة إنه لو كان الحق حقاً في نفسه لكانت الحقوق متساوية في قيمتها وفي نوع العقاب الذي يخصص لمنتهكها. لكن الناس يميزون بين الحقوق ويجعلون لكل حق جزاء خاصاً به يطبق على منتهكه. ولابد من الاعتراف بأن الناس يتعاملون مع الحقوق على أساس أنها عبارة عن لائحة مرتبة ترتيباً هرمياً. وينعكس هذا الترتيب بصورة مباشرة وواضحة في العقوبات التي يخصون بها العدوان الذي تتعرض له هذه الحقوق.
كيف نحل هذه المشكلة؟ كيف نجد مخرجاً من هذا التناقض القائم بين وصفنا الحق بأنه "حق في نفسه"، وبين الواقع الذي نعترف به جميعاً وهو اختلاف نظرة الناس إلى الأشياء، من زاوية "الحق والواجب"، باختلاف العصور والمجتمعات؟ وبعبارة أخرى: أين نضع "حقوق الإنسان" هل في فضاء المطلق أم في ميدان النسبي؟
"حقوق الإنسان" مفهوم حديث نسبياً إذ يرجع إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ولكن جدة المفهوم لا تعني بالضرورة جدة مضمونه. إن حقوق الإنسان كمضمون سابقة لظهور هذا المفهوم وذلك بقرون وقرون، بل يمكن القول إن عبارة "حقوق الإنسان" كمضمون ترجع إلى ذلك الوقت الذي ظهر فيه كل من مفهوم "الإنسان" و"مفهوم "الحق"، وهو وقت لا يمكن تحديده ولا تخمين بداية له. إن ظهور مفهوم "الإنسان"، بأية لغة كانت، لابد أن يكون متأخراً بما لا يقاس عن وجود الإنسان؛ ذلك أنه يتطلب وجود لغة يُمارَس فيها التجريد، وبالتالي يتطلب مستوى من التفكير يتم فيه التمييز بين الإنسان وغيره من الكائنات. وهذا التمييز يتطلب وعياً بالفوارق، كأن يعي الإنسان الفرق بينه وبين الحيوانات الأخرى، فيعطي لنفسه "الحق" في القيام بأمور معينة وينزع من نفسه الحق في القيام بأمور أخرى. ولابد من المرور عبر مراحل أعلى من التطور لكي ينقل الإنسان هذا التمييز إلى المستوى البشري نفسه، فيعطي الإنسان لنفسه "الحق" في أمور ويحجب هذا "الحق" نفسه عن غيره من بني جلدته. ولابد أن يكون القوي - في البداية على الأقل- هو الذي يعطي الحق ويمنعه، وقد قيل بحق في المثل السائر:"إن حجة الأقوى هي الأفضل دائماً". ومع ذلك فلابد أن تكون هناك ردود فعل، ولابد أن تكون ردود الفعل التي تأتي احتجاجاً على ذلك من أهم الوسائل التي عملت على إضفاء نوع من النظام على "حق الأقوى" هذا، وذلك بإقرار أنواع من التبرير لكل من العطاء والمنع. ومن هنا سينشأ "القانون" الذي يوزع "الحقوق" و"الواجبات" وينظمها.
والغالب أن فكرة "الحق" قد ظهرت هي وفكرة "الواجب" في وقت واحد وذلك لعلاقة التلازم والتضايف القائمة بينهما، وهي علاقة ما زالت حية قائمة في معاجم اللغة التي تعنى بالبحث في أ