لا يكون القول حجة إلا إذا قام على برهان، فهو لوحده يعتمد على قصد القائل والسياق الذي قيل فيه، وهذا ما سماه القدماء «أسباب النزول» لمعرفة القصد من الآيات ولماذا نزلت. والسياق أيضاً يتحكم في القول، أي الظروف الاجتماعية والسياسية التي قيل فيها. كما يتوقف القول على صحة الرواية، وقد تتضارب الأقوال والتفسيرات وتتعارض، فيقع الاختلاف وتحدث الفرقة. ?لذلك ?حاول ?الأصوليون ?القدماء ?ضبط الصراع بين الأقوال أو الروايات ?بوضع ?قواعد ?لتفسير ?الألفاظ ?بين الحقيقة ?والمجاز، ?الظاهر ?والمؤول، ?المجمل ?والمبين، ?المحكم ?والمتشابه.. ?مع ?السماح ?بالتعددية ?التي ?يتطلبها ?الفقه. وتتعارض حجة القول مع حجة العقل في الأمور النظرية والعملية على حد سواء. إذ تدور روايات عدة حول عذاب القبر ونعيمه، بينما يتساءل العقل حول إمكانها، ويحدث الجدل حولها. ويتساءل العقل عن وضع المرأة وحقوقها في الميراث والشهادة والزواج والطلاق.. فهي أمور ارتبطت بتاريخ التشريع أكثر من التشريع نفسه. كما يتساءل العقل حول العقوبات، مثل الجلد والرجم وقطع اليد، وحول الصلب الذي كان معروفاً في القانون الروماني والفارسي. ولما كان العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، لذلك يتم تغليبه على القول، وهذا موقف فريق من القدماء (المعتزلة)، فالعقل أساس النقل. وكتب ابن تيمية حول «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، ووضع المفسرون (خاصة الزمخشري) تفاسير عقلية للقرآن الكريم. ووضع علماء الحديث علم نقد الرواية وشروط صحة الحديث. وقد أعطى القدماء أولوية لنقد السند على نقد المتن، ووضعوا علماً بأكمله هو علم أصول الفقه للاستدلال على الأحكام واستنباطها قياساً على أحكام سابقة. والبرهان أعلى درجات اليقين، والأقوال ثلاثة: قول خطابي، وقول جدلي، وقول برهاني. والقول الخطابي هو الغالب على الخطاب السياسي رفعاً للهمة وتقوية للعزيمة، حتى ولو كان خادعاً. والقول الجدلي هو الغالب على الخطاب السياسي الحزبي. أما القول البرهاني فهو الغائب لغياب العقل وحضور النقل والعاطفة والانفعال. وقد صنَّف القدماء العلوم طبقاً للتقابل بين حجة القول وحجة العقل. فالعلوم ثلاثة أقسام: علوم عقلية نقلية تجمع بين النقل والعقل وهي أربعة: علوم أصول الدين، علم أصول الفقه، علوم الحكمة، وعلوم التصوف. وعلوم عقلية خالصة تعتمد على العقل وحده، وهي إما رياضية مثل الحساب والهندسة والجبر والفلك والموسيقى، أو طبيعية مثل المعادن والنبات والحيوان والكيمياء والطب. وقد ماتت هذه العلوم وأصبحت جزءاً من تاريخ العلم وليس حاضره، وأصبحنا الآن نعتمد على المنقول العلمي الغربي. والعلوم النقلية الخالصة مازالت موجودة، كما وضعها القدماء، وانتشرت في الجامعات والكليات الدينية، وهي خمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه. العلوم العقلية الخالصة ماتت، والعلوم العقلية النقلية لا تعرفها إلا النخبة، والعلوم النقلية الخالصة هي التي سادت وانتشرت حتى أصبحت ثقافة القول. وحاول البعض وضع منطق إسلامي يعتمد على البرهان ونقد المنطق الأرسطي، وعلى «قياس الأولى»، و«ما لا دليل عليه يجب نفيه». إن جعل حجة القول أساساً لحجة العقل، أدى للتضحية بالمصلحة الوطنية أحياناً لمصلحة القول، خاصة لو أُضْفيت عليه القداسة لمنع الاقتراب منه. يحدث ذلك رغم أن الفقهاء يعتبرون المصلحة أساس التشريع، بل وضعوا عدة مبادئ مثل: «المصلحة أساس الشرع»، «لا ضرر ولا ضرار»، «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن». ويحاول البعض القول باسم العلمانية، مع أنها استبدال قول بقول، قول المحدثين بقول القدماء.. لتبقى سلطة القول كما هي. لقد تغير مصدر القول فقط، كان التراث القديم وأصبح التراث الغربي. وبهذا نعيش في صراع الأقوال بين السلفيين والعلمانيين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وفي إطار التكالب على السلطة، يفتخر السلفي بالتراث القديم ونشره، بينما يفتخر العلماني بترجمة التراث الغربي وحمله. القول القديم مازال متواصلا رغم تغير الأحوال والأزمان، والتراث الجديد مازال غريباً لم ينبع من التجربة التاريخية المعاشة.. وتلك أزمة ثقافية حقيقية. - -