من الأبحاث العلمية التي تلقي ضوءاً على العقائد الدينية اليهودية في كتاب التلمود المقدس، كتاب الدكتورة حنان كامل، أستاذة الفكر الديني اليهودي. عنوان الكتاب «إشكالية العلاقة بين العناية الإلهية وحرية الإرادة في الفلسفة اليهودية في العصر الوسيط». ومن المعروف أن التلمود هو الكتاب اليهودي المقدس الثاني في الأهمية بعد التوراة، وهو يمثل تفسيراتها على أيدي الحاخامات ويصل الاهتمام به إلى درجة أن البعض يعتبره التوراة الشفوية. تبين المؤلفة في الجزء الخاص بالتلمود أن هناك ثلاثة اتجاهات حول قضية حرية اختيار الإنسان لمصيره وقضية الجبر والقدر: اتجاه يرى أن الإنسان اليهودي مجبر حيث إن ما يحدث لليهودي هو أمر موجه من إرادة الرب وعلمه وأنه لا توجد أي أسباب خارجية أو تدخل لليهودي فيما يحدث له أو ما يحدث للعالم، بالتالي فهذا الاتجاه ينكر حرية إرادة الإنسان اليهودي ويرد كل حدث في حياته إلى العناية الإلهية. نجد في نصوص التلمود التي اختارتها المؤلفة نصاً يقول إن الإنسان لا يحرك ساكناً في الأرض إلا بأمر من السماء، ونصاً آخر يقول إنه قبل ولادة المولود بأربعين يوماً، ينادي منادي قائلاً: ابن فلانة لفلان وابنة فلان لفلان وزرع فلان لفلان. وهو نص يعني أن مصير الإنسان وحياته محددان من قبل مولده، فعناية الرب كما تقول المؤلفة تقدر مَن سيتزوج مَن، وذلك لأن علم الرب سابق على ميلاد الإنسان، وعلى هذا الأساس لا يكون للإنسان أي دخل في اختياره. ويؤيد هذا الفهم من نصوص التلمود قول الحاخام إسماعيل أن الرب يسيطر على كل أرواح البشر وقول الحاخام إليعازر بن يوسي الجليلي.. أعلم جيداً أنه طالما أن الإنسان على قيد الحياة فإن نفسه تكون في يد خالقه. أما الاتجاه الثاني في التلمود في قضيتي الجبر والاختيار فيعتمد على الإيمان بقوانين الطبيعة والحظ في تحديد مصير اليهودي. وترى المؤلفة أنه اتجاه يذهب إلى أن العناية من جانب الرب لا دخل لها فيما يحدث للإنسان وإنما قوانين الطبيعة والحظ أو حتى البرج الذي ولد فيه الإنسان.. هي المسؤولة عما يحدث له وللعالم. وهو اتجاه لا يؤمن بالقضاء والقدر ويعتبر أن ما يحدث للإنسان يخضع للصدفة. وتقتبس المؤلفة من التلمود فقرة تشير إلى اعتقاد فريق من الحاخامات التلموديين أن قوانين الطبيعة مستقلة وأنها تعمل بمعزل عن إرادة الرب. تقول الفقرة إن حكم من سرق مكيالاً من الحنطة وزرعها في الأرض ألا تثمر، وإنما وفقاً لقوانين الطبيعة فإنها ستنمو، أما الجهلاء فسيحاسبون في الآخرة، وإن حكم من دخل بزوجة صديقه ألا تحمل، وإنما وفقاً لقوانين الطبيعة أنها ستحمل والجهلاء سيحاسبون في الآخرة. أما الاتجاه الثالث فيحاول التوفيق بين الاتجاهين فيؤمن بالعناية الإلهية وحرية الإرادة في ذات الوقت. ومن أقوال حاخامات التلمود لإثبات هذا الاتجاه قول الحاخام عقيبا: «كل الأمور مقدرة وفقاً للعلم الإلهي والعناية الإلهية والحرية مكفولة، أي حرية الاختيار للإنسان، ونحكم العالم بالخير وكل حسب عمله، أي أن الثواب والعقاب يكونان حسب اختيار الإنسان». وأخيراً أرى من المهم أن يطلع علماؤنا في العالم الإسلامي على هذه الاتجاهات التلمودية، وأن يخبرونا برأيهم فيها.