الإسكندر.. مقدوني أم يوناني؟
كان الإسكندر الأكبر أول شخصية عالمية مشهورة، حيث كان بطلاً مغواراً ورجلاً خارقاً. وعندما مات في عام 323 قبل الميلاد، لم يكن يقود الجزء الأكبر من العالم القديم فحسب، وإنما كان قد تحول إلى نموذج للإمبراطور المطلق، المصاب بجنون العظمة في نظر جميع القياصرة الذين جاءوا من بعده.
وبعد وفاة الإسكندر بألفي عام ما زالت دولتان، هما اليونان ومقدونيا، تشتبكان في جدال محتدم حول إرثه. وقد هبطت حرارة هذا الجدال عدة درجات في أواخر يونيو الماضي، عندما توصل وزير الخارجية اليوناني «نيكوس كوتزياس» ونظيره المقدوني «نيكولا بوبوكسي» إلى صيغة تفاهم تهدف لـ«بناء الثقة» بين دولتيهما. وإن كان ذلك الإجراء أيضاً محدود التأثير، ولم يفعل سوى أن نقل الجدال من مرحلة الفوران، إلى الغليان على نار هادئة.
ولد الإسكندر في «بيلا»، عاصمة مقدونيا، وهو ما يراه المقدونيون سبباً كافياً للادعاء بأن الإسكندر الأكبر هو الأب المؤسس لبلدهم. أما اليونان التي توجد فيها مقاطعة تحمل أيضاً اسم مقدونيا، تقع في الجزء الشمالي منها، فتذهب إلى أن اسم مقدونيا الذي تطلقه جارتها البلقانية على نفسها، يرقى إلى مرتبة «سرقة هوية»، أو «استحواذ ثقافي». وجمهورية مقدونيا الحالية هي دولة من ضمن الدول التي خلفت يوغسلافيا السابقة، وبالتالي فليست هناك علاقة تربطها بالمملكة القديمة، بحسب اليونانيين.
والحجة اليونانية، بحسب ما شرحها لي مسؤول حكومي يوناني هي كما يلي: «إن أرسطو هو معلم الإسكندر الأكبر، والاثنان كانا إغريقيين. والاثنان سيرتعدان في قبريهما اليوم جراء فكرة أن السلاف الذين هاجروا إلى جوار المنطقة التي كانا يعيشان فيها، والذين ينتمون لحضارة مختلفة تماماً، يحاولون تغيير التاريخ، كي يضفوا بريقاً على حضارتهم»! وليس من المحتمل، من وجهة النظر هذه، أن يكون الإسكندر قد وضع قدمه على أرض المنطقة التي يطلق عليها في الوقت الحالي جمهورية مقدونيا، ومع ذلك فإنه قد تحول من خلال القوة المحضة للتأكيد والإصرار، إلى تعويذة لهذا البلد.
وفي بداية فصل الربيع الحالي، زرت مدينة سكوبيه، عاصمة مقدونيا وحطت بنا الطائرة في مطارها الذي أسماه المقدونيون بشكل صريح «مطار الإسكندر الأكبر الدولي». وفي قاعة الوصول صافحت عيناي أول تمثال من التماثيل التي تصور الإسكندر ممتطياً صهوة جواد، وذلك قبل أن أستقل سيارة قادتنا عبر طريق ليس هناك مجال للتخمين بشأن الرجل الذي سمي على اسمه هو «طريق الإسكندر الأكبر السريع».
ولدى زيارتي لأحد مراكز الفروسية، رأيت تمثالاً يجسد الإسكندر ممتطياً صهوة جواده الشهير بوسيفالوس، واقفاً على قائمتيه الخلفيتين، على عمود نصر روماني مقلد، محوطاً بجنود المشاة المقدونيين بحرابهم الطويلة المميزة.
ولم يكن مستغرباً، والحال هكذا، أن يشعر اليونانيون بالغيظ تجاه هذه الرمزية التاريخية، التي يحاول المقدونيون ترسيخها بإصرار لتعزيز حجتهم. ولكن، من وجهة نظري، أن موقفهم ليس سليماً تماماً، كما قد يبدو للوهلة الأولى. بل يمكن القول إن الحقيقة هي أنه من الغريب بشكل ما، أن يدّعوا أن الإسكندر كان يونانياً صرفاً.
من المؤكد أن «بيلا» مسقط رأس الإسكندر، و«فيرجينيا»، موقع قبر «فيليب»، والد الإسكندر تقعان ضمن حدود اليونان الحالية، ولكن من المؤكد أيضاً أن مقدونيا القديمة كانت تمتد في زمن الأغريق لمسافة أبعد كثيراً فيما وراء تلك الحدود، كي تضم جزءاً مما يعرف اليوم بـ«جمهورية مقدونيا»، ومنطقة أكبر حجماً من البلقان، وفي خاتمة المطاف معظم آسيا الغربية.
وقد تربى الإسكندر بشكل كامل، بفعل أرسطو ولو جزئياً، على التقاليد الأسطورية- الشعرية اليونانية، ويقال إنه كان يضع تحت وسادته دوماً نسخة من«إلياذة» هوميروس. ومع ذلك، يبدو أنه كان يتحدث لغة مقدونية محلية، لم تقدم أدباً مثل ذلك الذي قدمته اللغة اليونانية القديمة.
وكان هيرودوت، الذي كتب في القرن الخامس الميلادي، مقتنعاً، حسبما توحي بذلك كلماته، بأن المقدونيين «هيلينيون كما يقولون عن أنفسهم» إلا أن عبارته هذه تؤشر في حد ذاتها إلى جدال محتدم ربما كان هو نفسه منخرطاً فيه.
وكما يوضح «روبين لين» خبير الدراسات الكلاسيكية بجامعة أكسفورد، فإن الملوك المقدونين «طالما زعموا أنهم ينحدرون من أصول إغريقية، إلا أن الإغريق قلما اقتنعوا، بإصرار جيرانهم الشماليين على ذلك».
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يصر اليونانيون اليوم على التأكيد بإصرار وإيمان لا يتزعزع على أن الإسكندر كان إغريقياً؟ الشيء الوحيد الذي يبدو مفروغاً منه في هذا السجال الدولي هو القيمة الحقيقية لإرث الإسكندر.
فمن المؤكد في هذا الشأن، أن الإسكندر كان لديه طموح، وأسلوب، وعقلية عسكرية فريدة، ولكنه -في قرارة نفسه- كان أيضاً جزاراً. فقبل نهاية حياته، فقد سيطرته على الواقع، واغتال رفيقه الجنرال كليتوس أثناء حفل عشاء، ثم جثا على ركبتيه، وبكى ندماً. ولذا فإن الجدال المتعلق بما إذا كان الإسكندر إغريقياً أو شبه إغريقي يمكن أن يمضي إلى ما لا نهاية.
--------------
لوك سلاتري
كاتب وأستاذ مشارك في قسم الدراسات الكلاسيكية بجامعة سيدني
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»