ليس من المقبول أن يصبح الأدب وعظاً أو أيديولوجية أو منشوراً سياسياً، ولكن في نصوصه ظلال لمسائل اجتماعية وسياسية. وقد فطن علماء العرب، في اللغة والأدب والاجتماع والفلسفة، إلى أن ما بين أيديهم من قصائد وشهادات وخواطر نثرية تنطوي، إلى جانب الجمال والذوق الرفيع، على قيم وقرت في نفوسهم وعقولهم، إلا أن أحداً منهم لم يبلور هذا بشكل متكامل ويجمع المتفرق الذي جاء هنا وهناك في كتاباتهم وأبحاثهم، حتى جاء نقاد الأدب العربي المعاصر ليستفيدوا من الآفاق الرحبة التي جادت بها سوسيولوجيا الأدب في الغرب، ويعيدوا النظر في تراثهم الأدبي وفق هذا المنظور، مع الوعي بخصوصية الأدب العربي من جهة، وما أنتجه نقاد الأدب وعلماء الاجتماع العرب من جهة ثانية. وزاد هذا الاتجاه بعد أن تبلورت ملامح الرواية العربية، التي تنهل من الواقع الاجتماعي وتضيف إليه في جدل لا ينتهي. وإذا كان علماء النفس والاجتماع يتعاملون مع موضوع القيم، حسبما يمليه الواقع الفعلي أحياناً، وما تفرضه ضرورة البحث العلمي أحياناً أخرى، فإنهم بذلك يمهدون الطريق أمام علماء السياسة ليتحدثوا عن «قيم سياسية» يتشرنق بعضها داخل مفاهيم وسلوكيات سياسية بحتة، ويمتد بعضها ليتقاطع في عمومياته مع مجالات الفلسفة والاجتماع وعلم النفس، ليتشظّى تحت عنوان عريض مفاده «قيم عامة ذات أبعاد سياسية». ولأن الأدب حامل لقيم معينة أو وعاء لها، من منطلق كونه غير منبتّ الصلة بمسيرة الحياة اليومية للأفراد والشعوب، ولأن السياسة تماهت في كل الظواهر الاجتماعية أو الإنسانية تقريباً، أصبح من الممكن، بل من الضروري التنقيب عن قيم سياسية في ثنايا النصوص الأدبية. وإذا كانت هناك مؤشرات أو مظاهر متعارف عليها بين الجماعة البحثية لمختلف القيم السياسية، فإن الأدب يبدع مؤشرات ومظاهر خاصة حين يخضع للدراسة السياسية. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نترك النص الأدبي، ليمارس حريته في تحديد هذه المظاهر. ويمكننا أن نبحث في ثنايا النصوص الأدبية عن قيم فلسفية وسياسية مثل الحرية والعدالة والمساواة والانتماء والتسامح والثقة والانخراط في المجتمع بفاعلية.. إلخ، وبالإضافة إلى هذا فإن براح النص الروائي يجعل الفرصة سانحة أمام باحثي علم السياسة ليستعملوا ما هو ملائم من الأدوات والمناهج العلمية، في سبيل رصد كل نقاط التقاطع أو التماس بين الأدب والسياسة. فالمنهج البنائي الوظيفي يساعد في تحديد الدور السياسي للعلوم والأبنية غير السياسية مثل الأدب. ومنهج الاتصال يمكن أن يتعامل مع النص الأدبي على أنه رسالة اتصالية، إذ إنه إنتاج للمبدع «مرسِل»، يتم نقله إلى المتلقي «مستقبِل»، من خلال وسائل معينة مثل القراءة والدراما.. إلخ «أدوات اتصال»، ويدلي المتلقي بعد ذلك بدلوه في تفسير هذا النص «تغذية مرتدة». أما منهج التحليل الطبقي فيساعد في رصد دور الأدب في بناء وعي الفرد بطبقته الاجتماعية، كما أن منهج النقد الاجتماعي يمثل الطريقة التي يقوم من خلالها نقاد الأدب وعلماء السياسة، على حد سواء، بمناقشة الدور الاجتماعي للأدب. وهذه المناهج العلمية تفتح باب «الأدب» على مصراعيه أمام دارسي العلوم السياسية. فعلاوة على موضوع «القيم السياسية يمكن أن يتصدى البحث السياسي لدراسة موضوع «دور الأدب في تشكيل الوعي السياسي»، منطلقاً من طرح أسئلة عديدة حول طبيعة العلاقة بين مفهومي «الأدب» و«الوعي السياسي»، والمداخل والوسائل العلمية، التي يمكن من خلالها تحديد دور الأدب في صياغة الوعي السياسي للفرد والمجتمع، أي في تنمية معرفة الإنسان بأبعاد الصراع الاجتماعي وماهية القضايا العامة وطبيعتها ورؤية الجماهير والمثقفين للسلطة السياسية، لينتقل بعد ذلك إلى تحديد مضمون هذا الوعي ذاته.