ارتبطت الإنسانية ككلمة معاصرة ببداية الحركة الأخلاقية في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث أصبح مصطلح "الإنسانية" مرتبطاً على نحو متزايد مع الفلسفة ومع العلمانية وعلمنة المجتمع وربط كل ذلك لجذور النهضة الأوروبية حيث تعني الكلمة دراسة الأصول الكلاسيكية للمعرفة والفلسفية الأخلاقية اليونانية واللاتينية بدايةً بما حدث في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر، أو ما حدث في فرنسا في القرن السادس عشر، وما تم تداوله في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر من مفاهيم للإنسانية كمصطلح متنوع مثل حب الجنس البشري عامة، أو فصل قيمه التراكمية عن الدين المؤسسي، والإشارة للفلاسفة الغربيين على مر العصور فقط، كمصدر يُصنف الفكر وجعل ما نسب لهم خلاصة الفكر الإنساني وأرقاه مع ذكر أسماء عابرة من باب رفع الكلفة مثل ابن رشد أو الفارابي على سبيل المثال كشارحين وناقلين وليس مصدرين أساسيين للمعرفة الفلسفية، وأسماء قليلة جداً من باقي الحضارات على سبيل المثال وكأن باقي الشعوب لا يوجد لديها ما يستحق الذكر. وهذا إجحاف ساهم في نشره لاحقاً مثقفون وفلاسفة من باقي الشعوب، وهي هيمنة فكرية سيطرت على جميع العلوم الإنسانية والفنية والأدبية. فهناك سعي دؤوب لتأكيد تفوق الإنسان الخارق الذي تجاوز عراقيل سطوة اللاهوت على المجتمع، ولم يتجاوز خيبة أمل الدماء والظلم والإستغلال النفعي البحت لموارد وحقوق الآخر في العيش الكريم بحرية، وهي أمور أبعد ما تكون عن الإنسانية، وهو موقف كل هيمنة عالمية عبر الأزمان وبدرجات متفاوتة. فالإنسان النبيل ذو الحس السليم لا بد أن يرجع كل فكر أو موقف لقيمة تعزز الكرامة والمساواة الإنسانية واستخدام العقلانية التجريبية دون تأليه الإنسان وعبادة المادة وتقديس المعرفة، وليكن الإحساس بالقيم للإنسانية العليا غاية أممية تدعمها القوانين والاتفاقيات الدولية الملزمة وما يعنينا هنا كمجتمع مسلم أن حراس تفسير الديانات والمشارب الفكرية الإنسانية وثقافة وتقاليد الشعوب المسلمة وقيمها المجتمعية في وادي والفلسفة الإنسانية واحترام إنسانية الإنسان في وادٍ آخر تماماً من الناحية التطبيقية. فالأفكار التي جعلها البشر خالدة لا تتغير وكل ما في الأمر أنها لم تفهم جيدًا في الغالب وفهم البشر هو المتغير ومن البديهي أن الإنسانية ليست دينا إنما مرتبة يصل إليها بعض البشر ويموت آخرون دون الوصول إليها ومشكلة الشعوب التي تسكن أبدانها الحاضر وعقولها الماضي أنهم لا يدركون أن الماضي منصة للقفز في الحاضر والتخطيط للمستقبل لا كرسياً للاسترخاء والسكون. وعندما تتخذ تصورات الإنسان وأفكاره وفهمه وتفسيره لكلام خالقه لنص مقدس بحد ذاته يتوقف الحراك إلى الأمام وتهدم جهود إعادة إحياء أي حضارة تسعى للنهوض من جديد. فرجال الدين في العصور الإسلامية الأولى كانوا جزءاً من الشارع، أما الآن فهم طبقة خاصة حالهم حال النخب الفكرية، لا يوجد بينهم وبين الشارع ارتباط وجداني حقيقي، وتحولوا دون أن يشعروا لمذهب، وهنا تبرز أهمية تنقية دور المؤسسات الدينية وعودتها للشارع ونبذ الإقطاعية والكهنوتية العقدية، وتبسيط فهم الدين وإنسانيته، وجعله أمراً ممتعاً وشيقاً للشباب ومزجه بأسلوب حياتهم والتركيز على الجانب الروحي وليس أتوماتيكية الممارسات. فالمنهج الصحيح إنعكاس لكل عصر ومعطياته وتحدياته وتتداخل فيه المصالح الجماعية والفردية وقوى قهرية توجه الدفة في إتجاه أو آخر، وكبشر نرسم انطباعات نكونها عن الحقيقة، ونصبغها بالعقلانية البشرية التي تدور في نطاق معارفنا وتجاربنا فقط، ولذلك هي محدودة. فالذين لا يستطيعون سماع الموسيقى يظنون أن الذين يرقصون مجموعة من المجانين، وخداع الناس أسهل من إقناعهم بأنهم قد تم خداعهم ومشكلتنا جميعاً بأننا دائما ننتظر الحل من غيرنا، ونفتش عن الحق في عقول الآخرين. ونهجر عقولنا إلا لخزن ما تستورده من أفكار وحفظ ما يملى علينا دون تفكير نقدي بناء. الإنسانية لن تتحقق كفلسفة وأسلوب حياة وثقافة مجتمع إلا بنشر الوعي الكامل على المستوى الشعبي بتلك المفاهيم ودعم المبدعين في توصيلها للعامة بصورة مبتكرة في ظل جهود النظم السياسية والنخب الثقافية والاقتصادية للمساهمة بصور مختلفة في جهود وضع خطط طويلة المدى من خلال التعليم والثقافة والإعلام وإعادة إحياء العلوم الفلسفية والأخلاقية، وتجديد الدين وتكاتف الأمة لإحداث ثورة الربيع الإنساني للبناء وليس الهدم، وللتقدم إلى الأمام وليس العيش في أحضان الماضي. ولنعلم أن أولئك الذين يكابرون ويخشون أن يرى الناس جانبهم الإنساني من ضعف أو جهل هم الجبناء الحقيقيون، فالشجاعة أن لا تخاف من مواجهة أوجه الجهل وتدرك طبيعة النقص لديك كإنسان، ولا تقبل أن يؤدبك أحد قبل ضميرك.