يروي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون) عن تلاميذ لأرسطو، أنهم تناقشوا يوماً حول عدد أسنان الحصان فاختلفوا جدا، ولو فتحوا فم الحصان وعدّوا الأسنان لوصلوا وتوقف النزاع. وعند هذه النقطة تطور المنهج (الاستقرائي)، وتجاوز المنطق (الصوري) القديم، ولولا هذا لبقي العقل الإنساني يرزح في قيود الفلسفة اليونانية حتى اليوم، ولما خلق العالم الحديث، ذلك أن العالم هو صورة الفكر على الأرض والواقع. وإذا جاء علم جديد وفهم جديد أعمق عن الصخرة، فلن يزيد على التعامل مع الصخرة، وهذه البديهية البسيطة مخفية عن أعين المسلمين وعن البشر أيضاً، لهذا يلح القرآن على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي لفهم سننه ونظامه، ولما يقول ستفهمون في المستقبل معنى هذا الكلام، لأن الواقع هو الذي سيكشفه، وسنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. سألني أخ كريم في هذه المسألة، فقال: «هل رادع الخوف من الدمار وحده كاف لإنهاء الحروب ليحل السلام في العالم؟ أم السلام بالإسلام الحقيقي؟». وجوابي إنْ لم يحصل لكم إيمان بالموعظة الحسنة، فسيحصل لكم إيمان رغماً عنكم بعواقب الأمور. والحرب يدخل إليها الإنسان طمعاً في النصر، ولكن إذا تأكد من الهزيمة والموت، فإنه لا يقدم عليها إلا كما يقدم على الانتحار، وهو الذي ردع ريتشارد قلب الأسد مرتين عن اقتحام القدس، مع أنه لم يخض معركة مع جند صلاح الدين إلا انتصر فيها، ولكن هذا القلق هو الذي حجزه في كلتا المرتين، وطبعاً، فإن عدد المنتحرين دون شك أقل من الذين يموتون موتاً طبيعياً. نحن الآن نصاب بصدمة في مثل هذه الأمور، ولكن سبب الصدمة أن الموضوع جديد وواقعي؛ فالناس ينكرون الأشياء الجديدة في أول الأمر، ولكن بعد أن يشهد الواقع يضطرون أن يتكيفوا معها. ومعرفة التاريخ تُظهر كيف مر البشر بمثل هذه المنعطفات؛ فكانوا يرفضون أموراً ثم يقرون بها، وكانوا يقبلون أموراً أخرى ثم يتركونها. ورؤية نماذج من هذا النوع تجعل الإنسان يتشكك في الأشياء التي يسلم بها، أنها ليست خالدة أبدية، والله وحده هو الأبدي السرمدي، ليس كمثله شيء، ولكن المخلوقات متغيرة. ولو تيسر للإنسان أن يراقب وضع الكرة الأرضية، ونشوء الحياة فيها، وأنواع الحيوانات التي عاشت فيها، وكيف أن الحياة كلها بدأت ذات يوم في الماء، ثم صارت في اليابسة، ثم وجد الإنسان؛ فقد يطرح السؤال نفسه، لماذا لا يخطر في بالنا أن هذا الخلق لا يزال مستمراً؟ لماذا لا يخطر في بالنا؛ أن الخلق لم يتوقف، ولا يزال يخلق، ويزداد في الخلق، وأن هناك نِشأة أخرى؟ ويزيد في الخلق ما يشاء. إن الميزة الكبرى للإنسان، أنه يستفيد من التاريخ، ومعرفة (كيف بدأ الخلق؟) هي التي تدل على استمرار الخلق والزيادة فيه.