الغباء السياسي والسقوط التاريخي!
هل يجوز من باب لغة التحليل العلمي أن نتحدث عن الغباء السياسي لبعض القادة والزعماء، أو لبعض الأحزاب السياسية أو الحركات الدينية؟ يبدو أن التحليل المقارن للنظم السياسية ولسلوك بعض القادة والزعماء في مشارق الأرض ومغاربها يدفعنا دفعاً إلى التسليم بأن وصف «الغباء السياسي» بالغ الدقة في مجال تقييم بعضهم. ولنأخذ أمثلة متعددة من الماضي والحاضر. كيف يمكن توصيف سلوك «هتلر» زعيم النازية الأشهر في مشروعه للهيمنة على كل بلاد القارة الأوروبية من خلال حملات عسكرية خاطفة إلا بالغباء المطلق؟ كيف تصور «هتلر» أنه يمكن أن يحارب كل الدول الأوروبية وينتصر عليها، وكذلك على الولايات المتحدة الأميركية التى دخلت الحرب ضده متأخرة شيئاً ما؟
لم يدرك هذا الزعيم المتطرف أن مشروعه مضاد لمنطق التاريخ، ولذلك هزم هزيمة ساحقة أدت إلى انتحاره في برلين هو وحليفه موسوليني زعيم الفاشية، الذى أطلق عليه أحرار إيطاليا النار فقتلوه شر قتلة بعد الهزيمة المدوية لدول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)! وقعت هذه الأحداث في الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، وكان من المفروض – بعد استيعاب دروسها القاسية- أن يسود السلوك العقلاني الرشيد في مجال عملية اتخاذ القرار التي يقوم بها القادة والزعماء.
إلا أننا وجدنا نموذجاً بارزاً على الحماقة السياسية في سلوك «جورج بوش» الابن، الذي أعلن -كرد فعل على أحداث سبتمبر – الحرب ضد الإرهاب، والتي أعلن أنها حرب لا يحدها زمان ولا مكان! وتعجل هذا الرئيس الأميركي المتهور الذي كان يزعم أنه يستوحي قراراته من الله بشن الحرب على أفغانستان لإسقاط نظام «طالبان»، لأنه آوى «بن لادن» الذي نسب إليه تخطيط الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة، وبعد ذلك ارتكب حماقته الكبرى بغزو العراق لإسقاط صدام حسين.
وهذه الحالة تقربنا من العالم العربي لكي ندرس حالات الغباء السياسي البارزة. ولا شك أن «صدام حسين» من ناحية، والعقيد «معمر القذافي» من ناحية أخرى، يقدمان لنا أمثلة بارزة على الغباء السياسي!
«صدام حسين» الذي صفى قادة حزب «البعث» وانفرد بالحكم ورث دولة غنية بالموارد الطبيعية وبالنفط وبالقوى البشرية المبدعة، ولكنه أضاع كل هذا وغامر بحرب لا سبب لها ضد إيران استمرت ثماني سنوات سقط فيها مئات الألوف من الضحايا من الجانبين، وخسرت العراق موارد هائلة. ولكنه لم يكتف بذلك، لكنه قرر فجأة غزو الكويت من دون مقدمات، مما جعل الولايات المتحدة تنظم تحالفاً دولياً لإخراجه من الكويت وهزيمته ثم حصار العراق بعد ذلك.
ولو انتقلنا إلى حالة العقيد «معمر القذافي» لوجدنا حالة نموذجية للغباء السياسي. فقد ورث دولة غنية بالنفط الذى يجعل ليبيا لا تحتاج إلى أية معونات خارجية، ولكنه تعمد القضاء على كل مؤسسات الدولة الليبية بما فيها الجيش. وترك البلاد في أيدي «اللجان الثورية» التي عاثت في الأرض فساداً، وأخطر من ذلك دخوله في مغامرات إرهابية متعددة وحروب أفريقية في تشاد، وكلها انتهت بهزائم ساحقة جعلته محاصراً من النظام الدولي، حتى اضطر إلى الرضوخ لأوامر الولايات المتحدة بالكامل.
انتهت حياة «صدام حسين» بالحكم عليه بالموت شنقاً، وانتهت حياة «القذافي» بقتله من قبل الثوار شر قتلة.
ولو انتقلنا من الشخصيات السياسية -قادة أو زعماء- إلى مجال الأحزاب السياسية والحركات الدينية لاكتشفنا أن ظاهرة الغباء السياسي في سلوك بعضها موجودة ولا شك. غير أن خطورتها تكمن في أنها يمكن أن تؤدي إلى الانهيار الكامل للحزب أو التصدع الشديد في الحركة الدينية. وهذا الانهيار وقرينه التصدع يمكن في حالات كثيرة أن يؤدي إلى ما نطلق عليه السقوط التاريخي.
يصدق ذلك على الحزب الشيوعي السوفييتي الذي حكم الاتحاد السوفييتي بعد نجاح الثورة البلشفية عام 1917 لمدة سبعين عاماً، كما أنه يصدق -ويا للمفارقة- على جماعة «الإخوان المسلمين» التي استمرت ثمانين عاماً، وقفزت إلى حكم مصر في غفلة من الزمان حتى أزيحت من السلطة بعد عام واحد فقط، بعد أن قامت الجماهير بانقلاب شعبي ضدها في 30 يونيو دعمته القوات المسلحة، مما أدى بها إلى السقوط التاريخي بعد فشلها السياسي الذريع.
وظاهرة السقوط التاريخي للأحزاب الحاكمة أو النظم السياسية تحتاج إلى تأمل عميق لاكتشاف الأسباب الداخلية للانهيار وكذلك العوامل الخارجية.
كاتب ومفكر- مصر