احتلال أفغانستان.. من بريطانيا إلى أميركا
في عام 1839 كانت بريطانيا تحتل الهند، وكانت تعتبرها «درة التاج البريطاني»، ولذلك كانت تخاف عليها من أطماع الروس الذين تمددوا في العصر القيصري باتجاه آسيا الوسطى. وكانت أفغانستان بموقعها الطبيعي تشكل البوابة الطبيعية لوصول الروس إلى الهند. ولذلك قررت بريطانيا احتلال أفغانستان لتحويلها إلى خندق أمامي دفاعاً عن درة تاجها. وفي ذلك الوقت كان يتولى الحكم في أفغانستان دوست محمد إثر انقلاب شعبي- قبلي على الملك «شوجا» الذي خلع عن عرشه وهاجر إلى الهند حيث كان يعيش فيها منذ ثلاثة عقود.
كان بإمكان القوات البريطانية بتفوقها العسكري أن تقتحم أفغانستان دون صعوبة تذكر، إلا أن هدف بريطانيا لم يكن الاقتحام فقط، ولكن الاحتلال الدائم. ولتبرير عملية الغزو ادّعت بريطانيا انها تدافع عن حق الملك «شوجا» في استعادة عرش أفغانستان. وهكذا نظمت حملة عسكرية قوامها 58 ألف جندي و30 ألف جمل لنقل المعدات الحربية والمؤن الغذائية. وما إن سيطرت هذه الحملة العسكرية على أفغانستان حتى جيء بـ«شوجان» من الهند وأعيد تنصيبه على العرش.
ويبدو ذلك مشابهاً إلى حد بعيد للحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان في عام 2001، وهي الحملة التي أدت إلى إسقاط حكم الملا محمد عمر وحركة «طالبان» وتعيين مهاجر أفغاني إلى الولايات المتحدة لترؤس الحكومة الأفغانية هو حامد كرزاي. وكما كان «شوجا» ألعوبة بيد البريطانيين، كان كرزاي في يد الأميركيين.
ولكن الاحتلال البريطاني لأفغانستان ما كان ليدوم إلى الأبد، فقد ثارت القبائل الأفغانية ضده، حتى اضطرت القوات البريطانية إلى الانسحاب في عام 1842. وكان الانسحاب مذلاً. وشمل 700 جندي بريطاني و3800 جندي هندي و14 ألف مدني. وهو الانسحاب الذي تحاول القوات الأميركية تجنب تجرع كأسه المُرة في العام المقبل 2015.
وقد بدأت حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال البريطاني باسم الدفاع عن الدين. وانتهت تلك الحرب ليس فقط بانسحاب القوات البريطانية، بل باستعادة دوست محمد للسلطة في كابول. فهل تنتهي حرب أفغانستان ضد الوجود الأميركي التي تقودها حركة «طالبان» بزعم الدفاع عن الدين أيضاً، بعودة الملا عمر إلى السلطة في كابول؟
بعد قرنين من الزمن، يبدو أنه لا المسرح الأفغاني تغيّر، ولا المسرحية الأفغانية تغيّرت. تغير اللاعبون فقط. فأثناء الاحتلال البريطاني كان سفير بريطانيا في طهران يردد دائماً: «من ليس معنا فهو ضدنا». وكان يوجه كلامه أساساً إلى الإيرانيين لحضهم على تأييد الاحتلال البريطاني لأفغانستان. وهذا الشعار هو الذي كان يردده أيضاً بوش -الابن- بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان في أعقاب العملية الارهابية التي استهدفت نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001. بل إن بوش ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال: «الأخيار معنا.. والأشرار ضدنا».
وقد استطاع الرئيس الأميركي أن يستدرج إلى أفغانستان (مع القوات الأميركية)، قوات من دول حلف شمال الأطلسي، -وهو ما لم يكن متيسراً لبريطانيا قبل قرنين من الزمن- إلا أن هذه القوات انسحبت الواحدة بعد الأخرى، حتى إنه لم يبقَ منها سوى القوات الأميركية وحامد كرزاي نفسه -الذي انتهت فترة رئاسته وتم انتخاب رئيس جديد للبلاد هو أشرف غاني. ولكن كرزاي لم يستطع أن يستدرج إيران إلى مسرح الحرب الأفغانية من بوابة مدينة هيرات، ثالت أكبر المدن الأفغانية بكثافة سكانها من الشيعة. ومن الواضح أن إيران اكتفت بالمكاسب التي حققها لها الاجتياح الأميركي للعراق ولم تشأ أن تدفع ثمن هذه المكاسب في أفغانستان. صحيح أن الولايات المتحدة وإيران تلتقيان على كراهية حركة «طالبان» بل وعلى استعدائها، ولكن اليد الأميركية تمسك بحجر نار الحرب مع هذه الحركة، أما يد إيران فمغمورة بالثلج الذي يغمر المرتفعات الشرقية في أفغانستان! والأميركيون مستعجلون على الانسحاب والإيرانيون يحيكون سجاد استغلال ثمار الانسحاب بصبر وأناة!
ويبدو أن كرزاي العارف بتاريخ بلاده، لا يريد أن يلعب كامل الدور الذي لعبه الملك المخلوع «شوجا»، فقد تخلى عن منصبه في الرئاسة وقرر اعتزال العمل السياسي بعد انسحاب القوات الأميركية. فهو يحتفظ بجنسيته الأميركية التي اكتسبها قبل أن يؤتى به رئيساً للحكومة في مسقط رأسه، على أمل أن يقضي بقية حياته في الولايات المتحدة.. وهو ما فعله «شوجا» أيضاً عندما عاد مع القوات البريطانية إلى الهند ليموت هناك منفياً. والسؤال الآن هو: هل يلعب الملا عمر زعيم حركة «طالبان» الدور الذي لعبه دوست محمد أثناء -وبعد- الاحتلال البريطاني؟
لم يكن أحد من الأفغان يتوقع أن يعود دوست محمد إلى السلطة في كابول بعد أن أبعده البريطانيون منها. ولكنه عاد. واليوم لا يتوقع أحد من الأفغان أن يعود الملا عمر إلى السلطة التي أبعده الأميركيون عنها.. فهل يعود نتيجة لهذه المفاوضات لتكتمل المسرحية الأفغانية بطبعتها الجديدة؟
لقد بادرت واشنطن إلى فتح قنوات تفاوض مع حركة «طالبان» بعد أن كانت ترفض الاعتراف بها بحجة أنها حركة إرهابية، واستجابت للعديد من الشروط التي طرحتها حتى الآن. إلا أن ثمة شرطاً يعطل المفاوضات تتمسك به «طالبان» يقول بتأخير التفاوض إلى ما بعد انسحاب القوات الأميركية. ويتمثل ذلك في الشعار الذي ترفعه «طالبان» والذي يقول: «لا مفاوضة مع الاحتلال». وفي المقابل يرفع الأميركيون شعاراً آخر يقول: «نريد التفاوض من أجل الانسحاب وليس من أجل ما بعده!». ويلتقي الشعاران حول النقطة المركزية الجوهرية وهي إنهاء الاحتلال، غير أن «الطالبانيين» الذين يعرفون تاريخ بلادهم جيداً لا يثقون في الأميركيين بعد أن ذاقوا على أيديهم مرّ العذاب، وأيضاً في ضوء التجربة الأفغانية الدامية مع بريطانيا.
فقبل قرنين من الزمن، كانت بريطانيا أثناء احتلال أفغانستان مهتمة أكثر بحرب المخدرات في الصين تجارة وترويجاً لإخضاعها ولابتزازها.. واليوم تبدو الولايات المتحدة التي تحتل أفغانستان، مهتمة أكثر بتداعيات النهضة الاقتصادية الضخمة في الصين التي جعلت منها مارداً عسكرياً يخيف كل حلفائها في شرق آسيا.. بما في ذلك اليابان والهند.
وربما يكون الاحتلال البريطاني لأفغانستان قد ردع الروس عن اقتحام الهند من شرق آسيا، عبر البوابة الأفغانية.. ولكنه لم يمنع الهند، ولو بعد حين، من الثورة على الاحتلال البريطاني ومن ثم تحقيق الاستقلال وانتزاع «الدرة» من التاج البريطاني.
وربما يكون الاحتلال الأميركي لأفغانستان قد ردع حركة «طالبان» عن حماية تنظيم «القاعدة» التي قامت بالعمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة وضد مصالحها الحيوية، ولكنه لم يردع قيام حركات إرهابية من الصومال في شرق أفريقيا وحتى مالي في غربها. وكذلك اليوم «داعش» في العراق وسوريا. فالحروب تبدأ بآمال كبيرة.. وتنتهي دائماً بخيبات كبيرة.. وخاصة الحروب الاحتلالية على النحو الذي مارسته بريطانيا والولايات المتحدة في أفغانستان!