في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى يمكن اختصار وصفها بأنها الحرب التي ولدت كل المآسي التي عرفتها الإنسانية منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وقد أدت تلك الحرب إلى مقتل عشرة ملايين إنسان وإلى إصابة 20 مليوناً آخرين بجروح. أما عدد الذين أصيبوا بعاهات جسمية ونفسية فلا يحصى. دمرت الحرب إمبراطوريات. وقسمتها إلى دول عديدة متناحرة لم تعرف طعم السلام. وأخرجت الولايات المتحدة من عزلتها الدولية وفتحت أمامها أبواب العالمية لتصبح قوة مهيمنة بالتي هي أحسن أحياناً، وغالباً بالتي هي أسوأ. خرجت من رحمها الشيوعية السوفييتية.. وكانت تلك الحرب هي السلّم الذي صعد عليه هتلر بعقيدة النازية المدمرة. ثم إنها أرست قواعد الحرب العالمية الثانية التي أعادت تدمير ما لم يدمر. ولعل من أسوأ نتائجها تقسيم الشرق الأوسط «سايكس- بيكو» الذي لا يزال يعاني من مفاعيل هذا التقسيم حتى اليوم. بل إن جرثومة التقسيم استقوت على مناعة الجسد العربي الواحد فأصبح الشرق الأوسط يعاني اليوم من تقسيم المقسم وتجزئة المجزّأ. ليس صحيحاً أن حادث اغتيال ولي عهد النمسا أثناء زيارته الرسمية إلى مدينة سراييفو هو الذي أدى إلى انفجار الحرب العالمية الأولى. كانت تلك الحادثة هي الشرارة الأخيرة فقط. سبقت حادث الاغتيال سلسلة من الأزمات والصراعات مهدت للحرب. كانت هناك أزمة المغرب في عام 1905. وكانت أزمة البوسنة في عام 1908 ثم أزمة المغرب الثانية (أغادير) في عام 1911، تلتها حربا البلقان 1912 ثم 1913. وبعد ذلك جرت عملية اغتيال فرانز فرديناند وزوجته في سيراييفو في 4 يوليو 1913 لتطلق العنان للحرب المدمرة. وحتى حادث الاغتيال ذاك، لم يأتِ من فراغ، ولم يقع فجأة. فقبل أحد عشر عاماً من وقوع الحادث، وقع حادث إرهابي مهّد له. ولكن القراءة قصيرة النظر للأحداث المتوالية لم تفتح عيون أصحاب القرار على خطورة الأمر إلى أن وقعت الكارثة الكبرى. فالحادث الإرهابي الذي عرفه القصر الملكي في بلغراد كان هو المؤشر الواضح على التوجه نحو الكارثة التي حلت لاحقاً. لقد قامت مجموعة من الجنود الصرب تتألف من 28 عسكرياً باقتحام القصر. قتلت المجموعة الملك ألكسندر والملكة «دراغا». وقطعت جثتيهما بالفؤوس قطعاً صغيرة، وألقت بها من نوافذ القصر إلى الساحة العامة. اعتبرت فيينا عاصمة الإمبراطورية في ذلك الوقت، الحادث تحدياً لها وانتهاكاً لشرعيتها. فوجهت إنذاراً إلى صربيا، ردت عليه بلغراد بأسلوب دبلوماسي خلا حتى من الاعتذار. كان قائد الجيش النمساوي في ذلك الوقت الجنرال -الكونت- فرانز كونراد فون هوتزندوف. وكان عسكرياً طموحاً يتطلع دائماً لفرصة الانقضاض على صربيا العاصية والمتمردة. وقد وجد في حادث القصر ضالته المنشودة. غير أن روسيا التي تجمعها بالصرب القومية السلافية والمسيحية الأرثوذكسية وقفت إلى جانب صربيا (وهذا ما حدث مرة أخرى في التسعينيات من القرن العشرين بعد أن ارتكبت القوات الصربية الجرائم الجماعية ضد مسلمي البوسنة فتدخلت دول حلف شمال الأطلسي عسكرياً وتضامنت روسيا مع صربيا). لم تكن المشاعر القومية هي الدافع الوحيد للوقوف ضد إنذار فيينا الذي وجه إلى بلغراد. كانت لموسكو اهتمامات جيواستراتيجية أساسية. كانت قلقة من تعاظم التحالف البريطاني- التركي في ذلك الوقت. وخاصة بعد أن تم بناء قوة بحرية تركية في البحر الأسود بمساعدة بريطانية. فقد وجدت موسكو في تلك القوة خطراً على الموانئ الروسية في شبه جزيرة القرم (وقد عبرت روسيا الحالية عن هذه المشاعر مرة أخرى من خلال أزمة أوكرانيا إذ فصلت القرم وأعادت ضمه إليها استجابة لتطلعاتها الاستراتيجية في البحر الأسود، ومن خلاله إلى المتوسط.. والأطلسي). كانت روسيا تتطلع إلى الفرصة المواتية للسيطرة على البلقان من أجل قطع الطريق أمام أي احتمال لإغلاق مضيق البوسفور في وجهها. لم تتفرد روسيا وحدها بهذا الموقف. فقد تحالفت معها فرنسا، ليس حباً في موسكو وسياستها، ولكن نكاية في بريطانيا التي كانت تزاحمها السيطرة على المتوسط والشرق الأوسط. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك منظمة الأمم المتحدة. ولم تكن هناك هيئات أو مؤسسات دولية لحل النزاعات ولضبط الصراعات.. أو للتوسط في الخلافات. كان كل طرف يعتقد أنه على حق. وأنه يملك من القوة ما يكفي لانتزاع الحق. بل كان كل طرف من أطراف الصراع يعتقد أنه قادر على الحسم وبسرعة. إلا أنه كان هناك من يعتقد العكس. فوزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت إدوارد غراي كان يخشى من أن يؤدي الانفجار إلى مأساة كبرى وقد لخص ذلك بقوله: «إن قناديل أوروبا ستنطفئ. ولن نراها مضاءة مرة أخرى في حياتنا». استخف الألمان بهذا التخوف. كانوا يثقون بقوتهم العسكرية وبقدرتهم على الحسم السريع. وكانوا يعتقدون أنهم إذا تمكنوا من الحسم على الجبهة الغربية فسيتمكنون من التفرغ لكسر شوكة القوة الروسية المتنامية قبل أن تشكل خطراً عليهم في المستقبل. وهكذا نشبت الحرب. وفي اليوم الأول منها، 22 أغسطس 1914 قتل 27 ألف جندي فرنسي في معركة «المارن» ومع نهاية الحرب بلغت خسائر فرنسا وحدها مليوناً من الجنود القتلى. أما الألمان فخسروا 800 ألف رجل. وخسر البريطانيون 886 ألفاً. وفي معركة «السوم» وحدها قتل 20 ألف بريطاني. وفي يوليو 1914 كان واضحاً أن الحرب لم تكن ضرورية. بل كان يمكن تجنبها بقليل من الحكمة والدبلوماسية. ولكن الدول الأوروبية كانت تعاني من تضخم في العنجهية والمبالغة في الثقة بالنفس. كان يمكن حل أزمة سراييفو سلمياً.. إلا أن الطموحات العسكرية حالت دون ذلك. وكما بدأت الحرب فجأة.. توقفت فجأة أيضاً بعد هجوم الـ100 يوم.. وتم التوقيع على الهدنة في نوفمبر 1918. ولكن هذه الهدنة كانت مذلة لألمانيا.. فكان الانتقام في الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى تدمير ما لم يدمر في الحرب العالمية الأولى. وكما دفع الشرق الأوسط الثمن الغالي من خلال تقاسمه بين فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى.. فقد دفع الثمن مرة ثانية بتوطين اليهود الأوروبيين في فلسطين بعد فشل هتلر في مشروع «الحل النهائي» للقضية اليهودية من خلال جريمة «الهولوكوست». خرج العالم من تجربة الحربين العالميتين بدرس أساسي هو أن الحرب لا تحل المشكلة. بل إنها تؤسس لمشكلة جديدة. فكان التوجه الأوروبي الجديد المتمثل الآن في الاتحاد الأوروبي. وكان يمكن للأزمة في أوكرانيا أن تفجر حرباً جديدة.. كما جرى إثر اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو قبل 100 عام. بل كان لأزمة جورجيا، وقبلهما كان يمكن لأزمة البوسنة وكوسوفو أن تفجر العلاقات بين الشرق والغرب.. ولكن من الواضح أن الجميع تعلموا الدرس.. ومن هذا الدرس تعلموا كيف يفرضون على الآخرين تسديد ثمن أخطائهم وخطاياهم.