لا يمكن للأمم أن تنهض وتتقدم وقد وصمت بعشوائية في التفكير والتدبير، أو استسلمت لتسيير الأمور يوماً بيوم، وكأنها «عامل تراحيل» لا يعرف ماذا سيفعل غداً أو بعد غد. فالدول التي تقدمت وحازت أسباب القوة والمنعة والمكانة لم تصل إلى هذا هباء ولا محض مصادفة إنما وفق تخطيط محكم يرسم معالم مستقبلها المنظور في المجالات كافة، ماراً من «التصورات» إلى اختيار «الرجال» المؤهلين لترجمتها في الواقع المعيش، ثم بناء المؤسسات التي يقوم على أكتافها هذا التنفيذ، ووضع «التشريعات» التي تيسّر الأمور وتضع لها الأطر القانونية الواجبة، مع الأخذ في الاعتبار كافة التغيرات التي تطرأ على المجتمع في قيمه وتنظيماته وعلاقاته. وفي ركاب هذه المقاصد المهمة عرفت الإنسانية ضرورة وضع «الاستراتيجيات» وامتلكت مهارات فائقة في هذه الناحية، ووزعت اهتماماتها على مختلف دروب الحياة وفروعها ومساراتها المعقدة، واستطاعت دول معينة بفضل هذا النوع من التفكير أن تمد نفوذها خارج حدودها وتسيطر على الآخرين بسهولة كبيرة. والاستراتيجية هي علم وفن التخطيط وأصول القيادة ترمي إلى الاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل المتوفرة، وهي مصطلح ينحدر من الحياة العسكرية بالأساس، ويعني وضع الخطط الحربية قبل نشوب المعارك، ثم إدارتها أثناء جريانها، فالكلمة أصلاً مأخوذة من الكلمة الإغريقية Strato وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح Strategos وتعني فن إدارة وقيادة الحروب. وقد تسلل المفهوم إلى مختلف العلوم والمجالات الحياتية ليعني وضع خطط مسبقة، بعيدة المدى، لتحقيق هدف محدد أو حزمة من الأهداف في ضوء الإمكانيات المتاحة أو التي يمكن الحصول عليها، ولذا وجدنا مصطلحات تبدأ من الاستراتيجيات الحربية والسياسية إلى استراتيجيات التسويق مروراً بالاستراتيجيات الاجتماعية والثقافية والمعرفية والاقتصادية والأمنية. وهذا التوزع نجَم عن التطور في مجال الأفكار والنظريات ومسارات التطبيق. وفي درجة حضور الاستراتيجية نفسها هناك استراتيجية عليا أو شاملة واستراتيجية محدودة. بل إن داخل كل مجال هناك استراتيجيات فرعية، فمثلاً ضمن الاستراتيجية العسكرية هناك استراتيجية برية وبحرية وجوية. بل إن هناك استراتيجيات مرتبطة بأهداف أو مشروعات عامة الأمر الذي يجعلنا في حاجة ماسة إلى استعمال وتوظيف عدة خطط تنتمي إلى عدة حقول معرفية ومسارات حياتية. فنحن حين نصوغ استراتيجيات لإعادة البناء، والارتقاء والنمو، والهيمنة، نحتاج إلى الاستعانة بعطاء مختلف العلوم الإنسانية والخبرات العملية. ولكن هذه التصنيفات أو التوزيعات التي فرضها تعقد مجالات الحياة ودروبها، لا يمنع من أن تكون الاستراتيجيات واحدة في جوهرها وأساليبها ونهج التفكير المرتبط بها. يجب أن تتوافر في كل ما يتصف بالاستراتيجية الارتباط بمعايير معينة مثل: وجود تهديدات أو منافسة، واتخاذ القرارات من قبل أعلى مستوى قيادي، وشمول جميع الأهداف الرئيسية أو الغايات الأساسية لواضعي الخطة، ثم وضع تكليفات محددة بالمهام المطلوبة. وفي ضوء هذا يتسم القرار الاستراتيجي بالثبات النسبي طويل الأجل، وبضخامة الاستثمارات أو الاعتمادات المالية اللازمة لتنفيذه، وبمكانة القائمين على اتخاذه، إذ يجب أن ينتموا إلى الإدارات العليا، وكذلك بضخامة عدد من ينفذون القرار في تفصيلاته العديدة والمعقدة. والخطط والاستراتيجيات، هما أعلى درجة في التفكير والتدبير والترتيب ونطاق التأثير والأفق الزمني من «السياسة» وإن كانا مثلها يتعلقان بـ«فن الممكن» أو «فن إدارة الخلاف والاختلاف»، والثلاثة متداخلة، وتتشارك في منظومة الغايات والطرائق، واستخدام الفكر الاستراتيجي بدرجات متفاوتة. وتبقى الاستراتيجية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض، ويصبح «التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها، ولذا فهو يتضمن جانبي الفن والعلم معاً. وهذا ما يراه هاري آر. ياجر، في كتابه المهم المعنون بـ«الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي: التفكير الاستراتيجي وصياغة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين»، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، عام 2011. ونظراً لأن التفكير الاستراتيجي يتطلب كلاً من التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، إلى جانب التفكير في التأثير المتبادل بين المنظومات، والتفكير في الزمن، والتفكير الأخلاقي، فإن للخيال دوره المهم في صياغة الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب في إطار صياغة الثالوث الاستراتيجي المتمثل في الأهداف والأفكار والموارد. وكل منها يحتاج إلى خيال. وهذا الاحتياج يعود إلى أن الاستراتيجية تتسم بأنها «استباقية توقعية»، وإن لم تكن«تنبؤية»، وهذا الاستباق يرمي إلى رعاية المصالح الوطنية وحمايتها مما يخبئه المستقبل، ولذا لا ينبغي أن يقوم على التقديرات الجزافية أو الخيالات الأسطورية، وإنما دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، التي تكون بدورها مشروطة بما يجري على الأرض، وبالإمكانات المتاحة. وهذا معناه أن الخيال الذي يتم توظيفه في إنتاج الاستراتيجيات هو خيال منطقي خلاق، يبدو ضرورياً حتى يمكننا توقع ما يأتي، واستباق الأخطار والعمل على تفاديها، أو تحقيق المكاسب وتعزيزها. وحتى تكون الاستراتيجية محكمة وفعالة وتمتلك قدرة على التنبؤ يجب أن تعي دروس التاريخ جيداً، وتستفيد في الوقت ذاته من عطاء مختلف العلوم الإنسانية، بل إننا قد نجد استراتيجيات موزعة على علوم بعينها، وهذا ما جعل مهارات وضع الخطط والاستراتيجيات تتقدم بشكل مذهل في السنوات الأخيرة، مما يفرض علينا نحن العرب أن نهتم بهذا النوع من التفكير بعد إهمال وغياب طويل، وإلا فسيكون من الصعب علينا أن نواجه مشكلات المستقبل بأي حال من الأحوال.