الوسطية الإسلامية المفترى عليها!
أثارت إعادة طبع وتوزيع كتاب عن الإسلام والمسيحية مضى على نشره في مصر نحو مائة عام انتقادات تتعلق بالتوقيت وليس بالمبدأ. فقد أُعيد طبع هذا الكتاب، الصادر في ظروف مغايرة وأجواء مختلفة، وتوزيعه في وضع يسوده الاحتقان وينتشر التعصب، الأمر الذي يتطلب كتباً من نوع آخر يُبلسم الجروح ولا يصب الزيت على نار الفتنة. فالكتاب الذي أُعيد طبعه وتوزيعه يتضمن مناظرة أجريت بين شاب مسلم وقس أميركي بينما كان مستوى التسامح في المجتمع المصري يسمح باستيعاب ما ورد فيه من هجوم متبادل.
غير أن أكثر ما أثار الانتقاد هو المقدمة الجديدة التي كتبها الدكتور محمد عمارة، وتضمنت ما يمكن اعتباره هجوماً على المسيحية، رغم أنه يُعرف في كثير من الأوساط باعتباره كاتباً وباحثاً وسطياً، الأمر الذي يفرض وقفة مع استخدام مفهوم الوسطية الإسلامية في غير محله وإساءة استغلاله دينياً وسياسياً.
فقد توسع كثير من «الإسلاميين» في استخدام مفهوم الوسطية دون تحديد أو تعريف متفق عليه، واستُدرج كثير غيرهم إلى الحديث عنه وكأنه يشير إلى معنى محدد في الوقت الذي صار مفهوماً سائلاً ومراوغاً. وحتى الحزب الذي انشقت قيادته عن جماعة «الإخوان» عام 1995 وحمل اسماً مستمداً من الوسطية (حزب الوسط) لم يقدم تعريفاً محدداً لهذا المفهوم يساعد في تدقيقه. فقد تضمن برنامجه فقرة واحدة عن الوسطية جاء فيها كلام إنشائي شديد العمومية يفتقد التحديد والوضوح: «الوسطية من منظور وطني حضاري تعني عند المؤسسين أن طريق البناء الذاتي يؤسس على الثقة في الذات الوطنية والحضارية التعددية وينبع من قيم الحضارة العربية الإسلامية ذات الطابع المصري المميز بخصوصيتها الثقافية المستمدة من المرجعيات التي ارتضاها المجتمع ونص عليها الدستور».
ومما يثير الانتباه الآن، ولم يكن منتبهاً إليه قبل أن تنكشف قوى الإسلام السياسي نتيجة فشلها في الاختبار المصري، أن جانباً من الرهان على اعتدال جماعة «الإخوان» ارتبط باعتقاد في أنها تعبر عن الوسطية الإسلامية على المستوى السياسي.
غير أن المرء لا يجد معنى واضحاً محدداً للوسطية، لدى تيارات الإسلام السياسي والمثقفين الذين ارتبطوا بها في العقود الثلاثة الأخيرة مهما بذل من جهد. وربما يرهقك البحث عن هذا المعنى، فلا تجد إلا إعادة إنتاج لفكرة الأمة الوسطية التي تفتقد بدورها المضمون وتحتاج إلى تحديد واضح للمقصود بها.
وحتى المثقفون والكتاّب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون لا تجد لديهم ما تبحث عنه بل ربما تجد غيره، فكان الدكتور محمد عمارة هو أكثرهم استخداماً لمفهوم الوسطية في كتاباته وأحاديثه، لكن في الإطار العام غير المحدد أيضاً. فقد تحدث كثيراً عما أسماه وسطية جامعة دون أن يوضح ما الذي تجمعه على وجه التحديد. فقد ربط هذه الوسطية الجامعة بإحدى أهم خصائص الأمة الإسلامية وفقاً للقرآن الكريم الذي اعتبرها أمة وسطاً: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً».
ولا يختلف هذا الكلام الشديد العمومية عما يمكن أن تسمعه على منابر بعض المساجد في خطب وعظية، أو في أحاديث بعض قادة «الإخوان» وغيرهم من أطياف الإسلام السياسي. فلم يقدم المثقفون والكتاب الذين استمدوا «شرعيتهم» من اعتبارهم وسطيين جديداً في تحديد معنى الوسطية وبلورة مفهومها وتحريره من السيولة التي يتسم بها، بل استخدموا هذا المفهوم في كثير من الأحيان غطاءً لمواقف وتوجهات مغالية.
ومع ذلك نجح هؤلاء المثقفون الذين قدم بعضهم إسهامات فكرية مقدّرة في بعض القضايا الأخرى، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها، في ربط الوسطية بقوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة «الإخوان». فلم يختلف الاتجاه الرئيس في فكر المثقفين الوسطيين عن التوجهات الأساسية لهذه الجماعة، سواء من جاؤوا من خلفية «إخوانية» أو يسارية. فقد انتمى بعضهم إلى تنظيم «الإخوان» في مرحلة مبكرة من حياته مثل الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد سليم العوا قبل أن يستقيلا منها لأسباب سياسية وتنظيمية وليس لدوافع فكرية وفقهية. أما الدكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشري فكانا يساريين، قبل أن يتحولا إلى الفكر الإسلامي.
ويعني ذلك أن المثقفين «الوسطيين» الذين انشقوا على جماعة «الإخوان» لم يحدثوا قطيعة معرفية معها، وأن من جاؤوا من خلفيات أخرى منهم لم يحافظوا على القطيعة المعرفية التي كانت تفصلهم عنها قبل تحولهم إلى الفكر الإسلامي. فلم يختلف فكرهم عن توجهات جماعة «الإخوان» في جوهرها، بل قدم بعضهم رؤى بدت أكثر تشدداً في صيغتها الفكرية التي طُرحت بها مقارنة بالتوجهات السياسية المعادلة لها في خطاب «الإخوان» وغيرهم من قوى الإسلام السياسي.
خذ مثلا الموقف من الآخر. فقد ظل كل من عمارة و البشري يعتبران فكر العلمانيين المصريين وافداً من الغرب وغريباً على الشرق، بل تعدى الأمر الفكر إلى من يؤمنون به حيث اعتبروهم غرباء. وأذكر أننا كنا في ندوة «نظمتها صحيفة «الحياة» في مكتبها بالقاهرة عام 1994 حين فاجأنا الدكتور عمارة بترديده القول المأثور شعبياً «البيت بيت أبونا.. والغرب بيطردونا»، قاصداً أن «العلمانيين» الغرباء يسعون إلى إقصاء الإسلاميين الأصلاء. وشرحتُ له يومها أن الدار (الوطن) للجميع وليست لأحد، ولم يرثها أي طرف عن أبيه وليس فيها غرباء لأن من يعيشون فيها كلهم شعب واحد.
ويكشف كتاب الدكتور عمارة «معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام»، الصادر عام 1996، رفضاً دفيناً لكل ما تعبر عنه مفاهيم التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية والإبداع، وليس فقط مفهوم العلمانية، ونفوراً شديداً من المضمون التحرري لهذه المفاهيم. فالتنوير مثلا هو مجرد اتجاه مادي لا ديني. وقل مثل ذلك عن كتاب طارق البشري الصادر عام 1996، «الحوار الإسلامي العلماني»، بما يتضمنه من نظرة إلى العلمانية باعتبارها «وافداً غريباً اقتحم حياة مصر وشعبها في القرن التاسع عشر».
وكثيرة هي الأمثلة الدالة على أن التوجهات الفكرية للمثقفين والكتاّب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون، بل بكونهم النماذج الأبرز للوسطية، ليست إلا تعبيراً عن التوجهات السياسية لجماعات الإسلام السياسي بما فيها جماعة «الإخوان».
فالوسطية الإسلامية، التي تقوم على فكرة عامة بسيطة مؤداها أنه لا إفراط ولا تفريط، هي نمط حياة يعيشه مئات الملايين من المسلمين بشكل طبيعي وليست توجهاً فكرياً أو سياسياً ولا تحتاج إلى تنظير. فالإنسان المسلم وسطي بفطرته إلا إذا تعرض لما يفسد هذه الفطرة التي فطره الله عليها.