بناء الإنسان... ضرورة حياتية
انشغلت بعض الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة بطريقة مفرطة وموسعة بمسألة «التنمية البشرية» و«رأس المال البشري» وتحدثت دراسات سياسية عن «القوة الناعمة» التي يقع في قلبها الإنسان، أو الفرد، بتكوينه الكامل. وقبل قرون تحدث فلاسفة ومتصوفة عن سبل بلوغ «الإنسان الكامل» وهي مسألة تسبق حديث الفيلسوف الألماني نيتشة عن «السوبرمان» بآلاف السنين.
وهناك حكمة سابغة تقول إن: «بناء المصانع يسير وبناء الرجال عسير»، وهي حكمة تبين أن بناء الإنسان، الجامع بين الروح والمادة، تختلف في صعوبتها عن بناء أي شيء آخر، فأهم ما يميز عملية بناء الإنسان عن أي عملية أخرى أننا هنا نتعامل مع الشخصية الإنسانية ذات التركيب النفسي المعقد، وصعبة الفهم والتحليل، ولذا فهناك عدة خصائص تقسم بها، هذه العملية وهي الصعوبة والبطء والتراكمية والتدرج إلى جانب تعدد الأوجه والاحتياج الدائم إلى الرعاية والتلقين.
ومصدر صعوبة هذه العملية هو الإنسان نفسه، فالناس كلهم ناس من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجذع وأطراف.. تركيب متشابه في الشكل والمادة إلى حد كبير، ولكن من حيث السمات والثبات والطباع والاستعدادات بينهم فارق شاسع.
فما يروق لأحدهم قد لا يستسيغه الآخر، وما يتبناه الفرد نفسه الآن قد يهجره ويستهجنه مستقبلاً، ولذا فإن هناك ضرورة لوضع منطلقات متفق عليها ومعتقد فيها للبناء الذي يوجب أن تجند له جهداً كبيراً وشاقاً.
وعلى رغم أن هذه الأسس يضع لها الدين الإسلامي الثوابت لبناء القلب (العقيدة)، والعقل والجسم، إلا أنها تحتاج كذلك إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من حكمة وعطاء معرفي، وهذا أمر ليس بالهين على الإطلاق، وبناء الإنسان عملية متعددة الأوجه، لأنها تعني الارتقاء بالفرد من حيث هو وحدة متكاملة من الصفات والمميزات الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية التي تبدو في تعامله وعلاقاته في المواقف المختلفة في مجتمعه، وهي تشمل دراسة شخصية الإنسان من حيث دوافعه وعواطفه وميوله واتجاهاته وسماته الخلقية، واهتماماته وآرائه ومعتقداته وعاداته وقدراته ومواهبه الخاصة ومعلوماته، وما يتخذ من أهداف ومثل وقيم اجتماعية وفلسفة في الحياة.
وجراء صعوبة عملية بناء الإنسان، وتعدد أوجهها يأتي بطؤها، إذ إنها عملية تسير في تمهل وأناة تطرأ لظروف الإنسان السابق ذكرها، ومن أجل الحصول على أقصى حد ممكن من الصلاح له، والذي يتطلب التريث والإتقان، وهي عملية تحتاج إلى رعاية دائمة ومستمرة، فكون الإنسان متقلباً، يصبح مؤمناً، كما يقول النص الديني، أو متأرجحاً بين اليقين والشك كما بيّن التراث الفلسفي وأطروحات علم النفس، أو كونه دائم النسيان ذا ذاكرة تخون، فإن بناءه يجب أن يكون مستمراً ودؤوباً حتى يتسنى الاحتفاظ بنقاء الشخصية الإنسانية وقوتها كما أن عملية بناء الإنسان عملية تدريجية «تواكب مراحل النمو المختلفة للإنسان فتبدأ منذ أن يكون جنيناً في بطن أمه وحتى أرذل العمر، وتدريجيتها كمية وكيفية معاً. فحجم المعلومات ووسائل التربية ونوعها يسيران في اتجاه تصاعدي. فما يلزم للطفل أقل في كمه وقد يكون كيفه مما يلزم للشاب.. وهكذا علاوة على ذلك فهي عملية تراكمية يختزن الإنسان «مادة بنائه» مترتبة ومتسلسلة حتى يصل إلى الغاية الموجودة التي تتمثل في اكتمال نضجه الإنساني. وتبقى الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان وهي أن الإنسان هو أعلى الكائنات تعرضاً للفحص والدرس من قبل العلوم، وأن كل المعطيات المستلهمة من دراسته تؤكد على أن عملية بنائه هي أكثر العمليات صعوبة ومشقه ولذا فإن تربية البشر وتكوينهم اعتماداً على قدرات الذات الإنسانية فقط يجعل الأمر أكثر تعقداً وغموضاً، فالجنس البشري بذل مجهوداً خارقاً لكي يعرف نفسه، ولكن على رغم أنه يمتلك كماً هائلاً من الملاحظات التي كدسها العلماء والفلاسفة والأدباء والروحانيون في جميع الأزمات حول الإنسان وأسلوب بنائه فإنه لا تزال هناك مساحات غامضة في النفس البشرية وعلى حد قول ألكسيس كاريل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» فإن الناس لم يعرفوا بعد كافة ما يتعلق بحقيقتهم، إذ إن كل واحد منا مكون من موكب من الأشباح نسير في وسطها حقيقة مجهولة.
ومما يزيد الأمر صعوبة أن البناء النفسي والعقلي للإنسان، على رغم إمكانية إدراكه نظرياً فإنه لا يمكن ملاحظته بشكل مباشر رغم الجهود المبذولة في سبيل معرفته، عن طريق الاستدلال من ظروفه وسلوكه. فالإنسان ليس كائناً سلبياً مثل الحيوان الذي يتأثر فقط ولا يؤثر، فالإنسان يغير ويتغير ويؤثر ويفعل. لذا فهناك صعوبة بالغة تكتنف محاولات إخضاعه للفحص والدرس والسعي لتشكيله وفقاً لأسلوب معين خاصة في سن متأخرة.
ومما لاشك فيه أن البناء المادي يختلف عن غير المادي، من حيث الشكل والكيفية ودرجة السهولة والصعوبة، فالبناء غير المادي أكثر صعوبة ويأخذ شكلاً أعمق وأبعد من المادي والبناء بصفة عامة مرتبط بالنمو خاصة في تدرجيته سعياً إلى اكتماله، فالنمو هو تغير مطرد وتقدمي، يستهدف وصول الإنسان إلى مستوى النضج الذي يعني التهيؤ أو الاستعداد الوظيفي لأداء دوره وهذا التغير يشمل كافة مظاهر الشخصية الإنسانية المعبرة عن وحدة سلوكها وأسلوبها الخاص في العمل، وهي المظاهر الجسمية والعقلية المعرفية والانفعالية والاجتماعية.
ومن هنا نجد أن عملية بناء الإنسان يجب أن تتبع أسلوب أو طريقة «النمو الأسلم» الذي يعطي أكمل صور النضج الإنساني، بما يتحقق فيه التوافق الشخصي، والرضا عن الذات أو «تحقيق الذات» والتوافق الاجتماعي، الذي يضمن التفاعل السليم والخلاق مع الناس، وهذا يعني تأهيل ذلك الكائن كي يلعب الدور الأكثر فاعلية في الحياة، بارتقائه دائماً إلى الأحسن وسعيه الدائم لنشدان الكمال البشري، فهو يتخطى الشكل الطبيعي والفطري الذي يأخذه النمو بوضع منهاج وخطة مدروسة تواكب مراحل النمو المختلفة، تتضمن كماً هائلاً من المعلومات والطرق العلمية المرتبطة بتهذيب السلوك، والتي تسير إلى غاية واضحة ومحددة وهي الحصول على الإنسان الأصلح، أو الإنسان الكامل حسب رغبة الكثير من المتصوفة والفلاسفة.