عقدة الإمامة.. لدى الزيدية حلٌّ
أوضحنا في مقالين سابقين عقدة الإمامة، وكيف شعر بمخاطرها الأقدمون، فما بالك بالمتأخرين. جعلها أئمة مذهب الجعفرية بإذن الله، وأن تحقيقها يعني الدولة المثالية، عالمها شبيه بالجنة. فأحيلت إلى إمام معصوم، لا يظهر إلا إذا أذن الله له، وبهذه الحال على البشر تدبير أحوالهم بأنفسهم، بمعنى لا يتحدثون باسم الله وينسبون له أحزاباً وولايات، وذكرنا وقتها أن ذلك حل من الحلول لمسألة عقيمة الجدل، لأن الحوادث حصلت في الماضي، والله هو الفاصل.
فطالما أنه لا يوجد نصٌ قرآني صريح ولا أمر نبوي مباشر فالقضية فيها أخذ ورد، وعقيدة وضد، إذن الأسلم عند الإمامية الاثنى عشرية أن يترك أمرها إلى الله، متى شاء يظهر صاحبها المهدي المنتظر، الذي يُعتقد أنه غاب في (329 هـ)، وخلال فترة الانتظار ليس من حق أحد أن يقوم بتمهيد أو تقديم. فيُذكر عن آخر سفراء المهدي علي بن محمد السمري (ت 329 هـ) أنه قال عندما حضرته الوفاة: «لله أمر هو بالغه» (الطوسي، كتاب الغيبة).
لقد صارت الإمامة والنزاع حولها بحكم التاريخ من جهة، مثلما ذكرنا من قبل رأي الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963) في «عقائد الإمامية»، ومن جهة أمرها لله، فالمهدي المنتظر لم يكلف أحداً ولم يلتق أحداً، بدلالة ما أورده شيخ الطائفة الطوسي (ت 460 هـ): «من يدعي المشاهدة، قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر» (كتاب الغيبة)، وعلى هذا الأساس كيف يُفهم أمر النيابة أو الولاية باسم الإمام، وهي عين الحاكمية عند الإسلام السياسي السني. كذلك ذكر الطوسي العشرات من الكذابين، من الذين ادعوا الولاية باسم المنتظر مِن بعد سفرائه الأربعة (260 -329 هـ)، منها بعذر أنه بابه ومنها سفيره.
بعد هذا أتى الزيدية بحل مرضٍ، وأراه مقبولا عقلا، وهو الاعتراف بالوصية وبما لا يُقلل منها، أو يهزها بشيء، ولا يؤثر على معتقدات الآخرين، فقد تحققت إلا أنها وصية علم وفقه لا وصية سياسة، وهنا الالتزام بها من عدمه شأن ديني لا دنيوي، وهذا الحل يُنسب إلى حفيد علي بن أبي طالب زيد بن علي بن الحسين (قُتل 122 هـ)، عندما أجاب على سؤال قصير لكنه يمتد بعده إلى قرون: «أكان علي إماماً؟!». قال زيد: «كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نبياً مُرسلا لم يكن لأحد من الخلق بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كان لعلي ما ينكر الغالية، فلما قُبض رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان علي من بعده إماماً للمسلمين في حلالهم وحرامهم، وفي السنة عن نبي الله، وتأويل كتاب الله، فما جاء به علي من حلال أو حرام أو كتاب أو سنة، أو أمر أو نهي، فرده الراد عليه، وزعم أنه ليس من الله، ولا من رسوله، كان رده عليه كفراً، فلم يزل ذلك حتى أظهر السيف (الخلافة)، وأظهر دعوته، واستوجب الطاعة، ثم قبضه الله شهيداً» (الحميري، الحور العين. ابن المرتضى، المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل).
أجد من المناسب التذكير بأن زيد بن علي بن الحسين كان واقعياً في رأيه عندما يُسأل عن الخلفاء، ويعترف بخلافتهم، فبخصوص الشيخين كان يقول: «ما سمعتُ أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيراً» (الحور العين). كما أن الزيدية في الفروع تتخذ المذهب الحنفي في أكثر المسائل. يقول في هذا التجانس أحد أبرز أئمة الزيدية أحمد بن المرتضى (ت 840 هـ): «الزيدية منسوبون إلى زيد بن علي، عليه السلام، وإن لم يكونوا على مذهبه في مسائل الفروع، وهي تخالف الشافعية والحنفية في ذلك، لأنهم نسبوا إلى أبي حنيفة والشافعي لمتابعتهم إياهما في الفروع» (المنية والأمل).
وحديثاً يقول عبد الرحمن الارياني (ت 1998) رئيس الجمهورية العربية اليمنية حتى عام 1974 عن المذهب الزيدي: «يؤمن بفقه المذاهب الأربعة، ويميل أكثر إلى الحنفي منها، أما في الأُصول فمعتزلي». قال ذلك عندما زار سوريا وذهب إلى مدينة طرطوس وسأله البعض هناك عن أحوال الزيدية باليمن، وبأي مذهب يتعبدون؟ ودون هذه الحادثة في تقديمه لكتاب أحد أبرز شيوخ العلويين عبد الرَّحمن الخيّر (ت 1986) «عقيدتنا وواقعنا». كذلك الزيدية عندما تقر بإمامة البطنين (ذرية الحسن والحسين) فبالفضل لا بالوراثة (المنية والأمل). وعندما قيل أصول المذهب الزيدي معتزلية يعني ذلك أصول «معتزلة بغداد» القائلين بتفضيل علي مع إقرار إمامة المفضول. أما الجارودية منهم فشأنهم آخر.
بلا ريب، هناك ما أُضيف من أحاديث ومنقولات، كل جهة حاولت دعم رأيها السياسي في النزاعات الحادة، ولو نظرنا في كتب الملل والنحل قد نجد نصاً واحداً يُقدم بعشرات الصياغات والتفاسير. ما نريد التركيز عليه هو إدراك جماعة كبيرة من الزيدية، وما حذر منه إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري)، وهم لا تستطيع أن تنسبهم إلى مذهب بعينه، فما أن يظهروا على هذا المذهب إلا أتتك مقالة لهم أبعدتهم عنه، ومن بعدهم الشهرستاني (القرن السادس الهجري)، ثم الغروي واليزيدي (القرن الرابع عشر الهجري) وغيرهم العديد، وكل هذا ورد في المقالين السابقين، هؤلاء جميعاً تنبهوا لمخاطر النزاع على قضية تاريخية مضت، بل إن الجدل فيها يكلس العقل، ويقطع الحوار، ويُسمم التعايش، ناهيك عما أسفر عنه من دماء وكراهيات عبر التاريخ.
هناك الكثير مما يقال في هذا الجدل العقيم، وعلينا احترام تجدد الزمن، ويجب ألا يقودنا أهل السياسة إلى الغرق في الماضي على قاعدة دينية. لكن هناك فسحة من الوقت للنجاة مما هو أسوأ، ولنفكر كيف نخرج منه. أقول إذا وضعت الإمامة خارج السياسة في أيدي البشر، وفهمت على أنها عقيدة الله يظهرها إذا أراد، أو أنها خاصة بالعلم والفقه، سيتحقق الحوار بين المذاهب من أجل السلم الاجتماعي.
خلاصة القول: نحاول، تحت حمم الطائفية وبراكينها الثائرة، الوصول إلى فهم يُقرب بين الناس، وليبقى كلٌّ على عقيدته، ومهما اختلفت العقائد يمكن التفكير بواحدة من الحلول، إما أنها تاريخ ولا يجوز الادعاء بعد مضي أهلها، وإما أن أمرها متروك لله تعالى، وإما على ما لدى الزيدية مِن حل.