ينظر البعض إلى مستويات الصحة النفسية بشكل مشابه لمستويات اللياقة البدنية، كونها تتجسد في طيف واسع من الدرجات، يبدأ بالاتزان العقلي والنفسي التامّين، وينتهي بالاضطراب العقلي والنفسي الكاملين. وهو ما يعني أن الشخص ربما يكون في حالة غير مثالية على الصعيد العقلي والنفسي، دون أن يكون مريضاً عقلياً أو نفسياً من المنظور الطبي البحت. وهذا اللبس وسوء الفهم الشائعان في توصيف الحالة الصحية النفسية، ربما يكون مردهما إلى غياب تعريف متفق عليه لماهية الصحة النفسية بالتحديد، فحسب منظمة الصحة العالمية، لا يوجد تعريف (رسمي) واحد للصحة النفسية، بسبب الاختلافات الثقافية، والتقييمات الشخصية غير الموضوعية، مع تضارب النظريات العلمية وعدم اتفاقها على تعريف موحد للصحة النفسية. ويمتد هذا التضارب إلى تقدير مدى أهمية العوامل المختلفة، والظروف المتغيرة، في تحسين الحالة النفسية، أو تدهورها. حيث تشمل حالياً هذه العوامل والظروف كلاً من: مستوى التعليم، والعقائد الدينية، ومستوى الدخل، والحالة الاقتصادية، وظروف التربية والتنشئة، والوضع الاجتماعي، والحالة الصحية البدنية، وغيرها. ومؤخراً، وحسب دراسة نشرت الأسبوع الماضي في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في علوم البيئة (Environmental Science and Technology)، أجراها علماء المركز الأوروبي للبيئة والصحة البشرية بجامعة «اكستر» البريطانية، ظهر أن الحياة في مدن، تتمتع بمساحات خضراء كبيرة من الحدائق والمتنزهات، يترك أثراً إيجابياً طويل المدى على الحالة النفسية للسكان. وقد بنى علماء المركز الأوروبي للبيئة والصحة النفسية استنتاجهم هذا على نتائج دراسة أجريت صيف العام الماضي، وأثبتت أنه في الوقت الذي يمكن فيه للحياة في المدن والمناطق الحضرية أن تكون عامل خطر على الصحة والحالة النفسية، إلا أن العيش في أحياء قريبة من المساحات الخضراء مثل الحدائق والمتنزهات، يقترن بقدر أقل من الكرب ومن التوتر العقلي. وتأتي أهمية هذه الدراسات وما يتفتق عنه من نتائج على خلفية الإدراك بأن الاضطرابات العقلية تعتبر من أكثر أنواع الأمراض انتشاراً على الإطلاق، حيث يقدر أن واحداً من كل ثلاثة من السكان في غالبية الدول، يشتكي من أعراض نوع واحد على الأقل من أنواع الاضطرابات العقلية خلال رحلة حياته، وهي نسبة تتفاوت بين الدول والمناطق المختلفة. فمن المنظور الدولي، وحسب منظمة الصحة العالمية، يوجد حالياً أكثر من 450 مليون مصاب باضطراب عقلي حول العالم. وتمتد الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية إلى السنوات الأولى من العمر، فمن بين جميع أطفال العالم ومراهقيه يعاني 20 في المئة منهم من نوع أو آخر من المشاكل النفسية أو العقلية. وهذا الوضع أدى إلى ظهور ما يعرف باستراتيجيات الوقاية من الأمراض النفسية، التي تتضمن مواجهة الأسباب المباشرة للاضطرابات العقلية والنفسية، مثل تعاطي المخدرات والكحوليات، مع تقدير حجم ومخاطر الإصابة نتيجة التركيبة الوراثية، أو التجارب الحياتية، ووضع البرامج الوقائية التي تتعامل مع الأسباب، والظروف، وعوامل الخطر التي تؤثر سلباً، أو إيجاباً، مع مستوى الحالة النفسية. وعلى ما يبدو أن أهمية توفير مساحات كافية من الحدائق والمتنزهات، ستتزايد كإجراء صحة عامة وقائي، في ظل انتشار الأمراض النفسية والعقلية، بدرجة تجعلها قضية صحة عامة بكل المقاييس، لا تحمل فقط جانباً إنسانياً، وإنما أيضاً جانباً اقتصادياً، ناتجاً عن التكلفة المالية التي تتطلبها رعاية وعلاج المصابين بالأمراض النفسية والعقلية، بالإضافة إلى فاقد إنتاجية هؤلاء الأشخاص بسبب مرضهم. والمثير أن تأثير توفر الحدائق والمتنزهات، يتميز بكونه طويل المدى، مقارنة بالعوامل والظروف الأخرى التي قد تترك تأثيراً إيجابياً هي الأخرى على الحالة النفسية، مثل زيادة الراتب، أو الترقية في العمل، أو حتى الارتباط والزواج. وحسب القائمين على الدراسة الأخيرة تؤدي «مسببات السعادة» سابقة الذكر، إلى تأثير ملحوظ وظاهر بكل تأكيد، إلا أنه تأثير قصير المدى، حيث يعود هؤلاء الأشخاص إلى مستوى حالتهم النفسية نفسها، بعد انقضاء ما بين ستة أشهر إلى سنة من زيادة الراتب أو الترقية أو الزواج. وحتى عند تقييم الأشخاص الذين فازوا بجائزة يزيد قدرها عن 500 ألف استرليني (3 ملايين درهم تقريباً)، ترك هذا الفوز تأثيراً واضحاً على حالتهم النفسية، إلا أنهم بعد مرور عام واحد فقط، ارتدوا إلى حالتهم النفسية السابقة. وعلى العكس من ذلك، وجد باحثو المركز الأوروبي، أن تأثير الانتقال للحياة في مناطق تتمتع بمساحات خضراء واسعة ظل مستمراً لأكثر من ثلاثة أعوام. ويسعى هؤلاء الباحثون للتعمق بقدر أكبر في هذا التأثير من خلال دراسة وقعه على الجوانب المختلفة للعلاقات الزوجية، مثل معدلات الطلاق، ومدى الرضا العائلي. ففي ظل ما ثبت حتى الآن من أن المساحات الخضراء من حدائق ومتنزهات تخفض من مدى التوتر العقلي، وتحسن من الحالة الصحية النفسية، يتوقع الباحثون أن تؤدي أيضاً هذه التأثيرات إلى خفض التوتر بين الأزواج داخل المنازل، وأن تمكنهم من اتخاذ قرارات أكثر عقلانية، والتواصل والتخاطب بشكل أقل حَدِّية وعدوانية.