يظهر نيلسون مانديلا في الوجدان الجمعي العالمي كمناضل وبطل عظيم من أبطال الإنسانية المعاصرة، ولذلك قال عنه الرئيس الأميركي أوباما «إن قلة منا سيصادفون بطلاً مثله على الأرض مرة أخرى». ومن الصعب أن نوفيه حقه في الكلام لما أبداه من نضال وجهد في سعيه من أجل الحرية، ثم كرئيس لجنوب أفريقيا لاحقاً حيث أظهر أيضاً كثيراً من الشجاعة والحكمة والتضحية والمثابرة في تمهيد الطريق لإنهاء سياسة الفصل العنصري والصفح عن الخصوم السابقين دون الارتهان لاجترار أية مرارة من مرارات الماضي الأليم. ولكن تصوير مانديلا باعتباره إنساناً غير عادي أو من فئة خاصة فيه عدم فهم لمغزى حياته التي أكد فيها على الالتزام الأخلاقي الإنساني العام لما يجب أن يفعله في مواجهة الظلم. والدرس المستفاد منه يتمثل في الكيفية التي يستطيع بها الإنسان أن يستجمع إرادته وإيمانه ضد نظام قمعي ويحشد الآخرين معه ويظل يسعى إلى اكتشاف وسائل نضالية سلمية جديدة ولو من محبسه. وفي هذا السياق، يستحق الأمر الاعتراف بالحركة الأميركية الناشطة التي ساعدت في خلق الظروف لإنهاء أطول أنظمة الفصل العنصري. وبينما كان الجميع يستنكرون النظام، مضى البعض قدماً مصرين على أن ثمة دوراً يتعين علينا الاضطلاع به. وبدلاً من العمل العسكري، تمثل الدور في عزل جنوب أفريقيا دبلوماسياً واقتصادياً مما ساهم في سقوط ذلك النظام العنصري. وقدم أول دفعة زخم لمسعى العزل، الأميركيون السود كرد فعل على المعاملة المقيتة لمواطني جنوب أفريقيا السود على يد حكومة الأقلية البيضاء. وتقدم النائب الأميركي رون ديلومز بتشريع مناهض لسياسة الفصل العنصري عام 1972 بدعم من أعضاء تجمع السود في الكونجرس واللجنة الفرعية الخاصة بأفريقيا في مجلس النواب. ولكن الأمر استغرق عدة محاولات قبل الموافقة على التشريع. وقد بدأ طلاب الجامعات في نهاية سبعينيات القرن الماضي، في عقد جلسات توعية واحتجاجات والمشاركة في مجالس الأمناء حتى يضغطوا على جامعاتهم كي تبيع استثماراتها في جنوب أفريقيا. وكانت جامعة ميتشجان هي أول من أقدم على ذلك. وبعد هذا بأربعة أعوام وافق المجلس التشريعي في ولاية ميتشجان وحاكمها على تصفية 30 صندوقاً لمعاهد وجامعات في جنوب أفريقيا وإن كان القضاء نقض القرار فيما بعد. وقد كنت أغطي اجتماعاً لمجلس الأوصياء في جامعة «ستيت» في نيويورك في «ألباني» عام 1985 عندما احتل نشطاء من الطلاب المبنى كطريقة للاحتجاج. وجاء رد رئيس المجلس في ذلك الوقت، وهو دونالد بلينكين، غاضباً في مقال رأي نشر في «نيويورك تايمز» شكا فيه أن الأمناء وهم «مجموعة من المواطنين حسني الأخلاق غير العنيفين» وُصفوا بأنهم فاشيون وقتلة. ولكن الأهم من هذا هو رفضه لأي شخص يقارن باستحسان بين الحركة الناشطة للطلاب ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والحركة المناهضة للحرب في فيتنام. وكتب بلينكين «يقولون: أليس من الرائع أن الطلاب وجدوا مرة أخرى قضية جديرة بالاهتمام... ولكن على خلاف الستينيات، بينما كان بعض الطلاب يرون في الذهاب الوشيك إلى فيتنام خطراً يطالهم شخصياً، فقضية اليوم لا تعرض حياة أو حقوق الطلاب للخطر». وبعبارة أخرى، فإذا لم تتضرر مباشرة فما من سبب يجعلك تقحم نفسك في النضال ضد نظام الفصل العنصري. ولو سادت وجهة النظر هذه فلربما كان التغير في جنوب أفريقيا قد حدث بشكل أكثر بطئاً. ولكن عدداً من المعاهد والجامعات الأخرى صفت نشاطها في جنوب أفريقيا. وسحبت جامعة كاليفورنيا ثلاثة مليارات دولار من الاستثمارات من ذلك البلد وهو ما قال مانديلا إنه كان عاملاً مهماً في القضاء على حكم الأقلية البيضاء. وكذلك شن فنانون وموسيقيون من فرق شهيرة مختلفة حملة واسعة ورفعوا أصوت شجبهم عالية، وضغطوا على حكومة جنوب أفريقيا لإنهاء سياسة الفصل العنصري والإفراج عن مانديلا من السجن الذي قضي فيه 27 عاماً. وعلى رغم معارضة الرئيس الأسبق رونالد ريجان، فقد أقر الكونجرس الأميركي القانون الشامل لمناهضة الفصل العنصري لعام 1986 بفرض عقوبات على جنوب أفريقيا حتى تنفذ شروطاً معينة. وكان ريجان يخشى من الاستيلاء الشيوعي على جنوب أفريقيا، فاستخدم حقه في الاعتراض على القانون ورفض التوقيع عليه. ولكن الكونجرس في اتحاد نادر للحزبين الكبيرين تجاوز رفض الرئيس وأقر القانون. وظل الرئيس الجنوب أفريقي في ذاك الوقت «بيتر بوتا» متمسكاً بعناده وقال «لا نستسلم أبداً للمطالب الخارجية ولن نفعل هذا»، ولكن حكومته لم تتحمل العزل الدبلوماسي والاقتصادي واستقال عام 1989 ليحل محله فريدريك دوكليرك الذي أفرج عن مانديلا وبدأ تمهيد الطريق إلى إنهاء سياسة الفصل العنصري. والحال أن الدور الداعم الذي لعبه الأميركيون يشير إلى أفضل طريقة للاحتفاء بمانديلا: النظر إلى الظلم عموماً باعتبار مواجهته التزاماً شخصياً إلى درجة ترغم المرء على التصدي له بصرف النظر عمن يقع عليه هذا الظلم. ------- ريكا باسو كاتبة أميركية ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»