في الوقت الذي يبكي فيه العالم وفاة نيلسون مانديلا، أحد أكثر مناضلي حقوق الإنسان احتراماً في التاريخ الإنساني، بدأت تتقاطر عبارات التكريم من قادة العالم، بمن في ذلك أوباما، بالإضافة إلى كل الأشخاص الآخرين الذين تأثرت حياتهم بفكره وميراثه. وإذا كانت لحظات الإلهام التي حفرها مانديلا في أذهان من عرفوه ما زالت ماثلة، فإن الناس الذين لم تتح لهم فرصة التعرف إليه تشبعوا هم أيضاً بجملة من الدروس الأساسية، فقد تعلم كل من راقب مسيرة مانديلا في النضال والحياة أنه لا شيء أقوى وأبعد تأثيراً من التسامح والصفح. فغياب الضغينة وروح الانتقام وإعلاء قيم التسامح في تصرفات مانديلا، على رغم المعاملة السيئة التي تعرض لها، كلها لعبت دوراً رئيساً في الحياة الغنية والمنفتحة التي ظل يتمتع بها حتى اللحظة الأخيرة. وعندما أفرج عنه من السجن في عام 1990 لم يسعَ إلى الانتقام، أو معاقبة خصومه، بل وضع نصب عينيه مهمة توحيد بلده المنقسم. وهذا الاهتمام بالمستقبل والانصراف عن الماضي وآلامه، على رغم ما تخلله من أوقات عصيبة، هو مثال ودرس لكل شخص منا لم يعش ما قاساه مانديلا، ومع ذلك يسعى للانتقام. ولكن التسامح العفو ليس هو الدرس الوحيد الذي لقنه مانديلا للناس، بل هناك أيضاً الوفاء والالتزام، فقد ظلت زوجته، «ويني»، تترقب رجوعه لسبعة وعشرين عاماً دون كلل أو ملل، ومع أن الزوجين انفصلا بعد سنة من إطلاق سراح مانديلا، إلا أن انتظارها الطويل لرجل في السجن لا يعني فقط تمسكها به، بل أيضاً إيمانها العميق والراسخ بقضيته وما يجسده من مبادئ. وبوقوفها إلى جانب زوجها وانتظاره طيلة سنوات مديدة سهلت «ويني» على العالم مسألة الاقتناع بمانديلا والاقتناع بمبادئه، بل أبقت جذوة الأمل متقدة في النفوس بأنه يوماً ما سيخرج من محبسه. وفي الوقت الذي يتعامل فيه العديد من الناس مع فكرة «الوقوف إلى جانب الشريك في السراء والضراء» بنوع من النفاق، أثبت مانديلا وزوجته أنهما مقتنعان بذلك حقاً. بيد أنه إلى جانب درس الوفاء والالتزام هناك أيضاً درس آخر لا يقل أهمية يتمثل في أن الجزء الثاني من حياتنا قد يكون أفضل من الأول، وهي فكرة لا تروق كثيراً للأميركيين الذين نشأوا على أنه إذا لم تحقق الثراء في سن مبكرة فقد أضعت حياتك، وإذا لم تصل إلى مبتغاك في سنين قليلة فإنك فاشل، والحال أنها صورة مغلوطة ساهمت في تكريسها الثقافة الشعبية الأميركية، فمانديلا قدم أفضل إسهاماته للإنسانية، بما فيها تولي رئاسة جنوب أفريقيا، عندما بلغ السبعين من عمره، حيث يبدو أن العمر بالنسبة لأهداف كبرى مثل إرساء العدالة الاجتماعية والتغيير المجتمعي المنشود ليس سوى رقم ينبغي عدم الوقوف عنده كثيراً، فمتى ما تحققت الأهداف وتحسن العالم كان ذلك جيداً بصرف النظر عن السن، أو التوقيت. أما الدرس الآخر الذي يمكن استلهامه من حياة مانديلا فهو أن القادة الجيدين يظهرون في أوقات الازدهار، ولكن القادة العظماء لا يبرزون إلا في أوقات الشدة، وإذا كان العديد من القادة يستطيعون إلهام الحشود من خلال الخطب الرنانة والمؤثرة، إلا أن القليل فقط هم من يستطيعون ذلك من وراء القضبان، وأقل منهم من يمكنهم الاستمرار في إلهام الناس لثلاثة عقود متواصلة. وفيما تفشل العديد من الحركات النضالية عندما يسقط الزعيم، أو يغيّبه الموت، كانت قدرات مانديلا على درجة من الاستثنائية ما ضمن الحياة والاستمرارية للأفكار التي ناضل من أجلها حتى عندما كان وراء القضبان. وأخيراً كانت إحدى الخصائص المميزة لمسيرة مانديلا هي حرصه الشديد على أن يستمر عمله ويبقى إرثه سواء كان في السجن، أو حتى لو غادر الحياة، فمبادئ التحرر ومحاربة التمييز العنصري وتكريس الحكم الديمقراطي واحترام الآخر والنضال السلمي، كلها أمور باقية معنا حتى بعد غياب أحد كبار مناضليها المؤسسين. ------ كيلي جوف كاتب أميركي ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»