لماذا جون كينيدي؟
قبل أسبوعين أحيت الولايات المتحدة الأميركية الذكرى الخمسين لاغتيال رئيسها يومذاك جون. أف. كينيدي. وبدا، لضخامة الاستذكار واتساع نطاقه وحرارة تعبيراته، أنّ هذا الرئيس لا يزال يحتلّ موقعاً بارزاً في الوجدان الأميركيّ قياساً برؤساء كثيرين انقضى كل ذكر لهم.
والحال أن ما جعل الأمور على هذا النحو، إنما يكمن في خصوصية السيرة الكينيديّة، بل في استثنائيتها، هي التي توّجت بعملية الاغتيال الشهيرة في مدينة دالاس يوم 22 نوفمبر 1963. فالسيرة تلك إنما تضجّ بالعناصر الروائية، الواقعيّ منها كما البوليسيّ الحافل بالتشويق، مثلما تضجّ بالتناقضات المثيرة.
فخلال سنواته الرئاسيّة القليلة، تحققت إنجازات بارزة في عدادها إرسال أوّل رجل إلى القمر اسمه جون غلين في فبراير 1962، وانتصاره في العام نفسه في المواجهة التي عُرفت بأزمة الصواريخ الكوبية، ما فرض على الزعيم السوفييتي آنذاك نيكيتا خروتشوف أن يسحب صواريخه من الجزيرة الصغيرة المجاورة لجنوب الولايات المتحدة. والحقّ أنّ ذاك الانتصار المدوّي جاء رداً على إخفاق أميركي كبير في ما عُرف بغزو خليج الخنازير في إبريل 1961. يومها أُحبطت وانهارت محاولة قادها عدد من رجالات وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة (السي آي إي) لغزو كوبا وإسقاط حكم فيديل كاسترو الشيوعي.
ويندرج في نطاق الإنجازات خطابه في برلين في يونيو 1963، قبل أشهر قليلة على مصرعه، والذي اعتبر أعلى درجات التضامن مع ألمانيا الغربية يومذاك، ومع مدينة برلين تحديداً حيث كان النظام الشيوعي في الشطر الشرقي قد أكمل لتوّه بناء جداره الشهير. لقد كان ذاك الخطاب إعلاناً صارخاً عن وقوف الولايات المتحدة إلى جانب أوروبا الغربية في الحرب الباردة، فكأنه جاء يجدد التعهد الذي عبرت عنه مشاركة أميركا في الحرب العالمية الثانية ضد النازية.
وفي عهد كينيدي أيضاً اتسع نطاق الدعوة إلى منح الأفارقة الأميركيين (الأقلية السوداء) حقوقهم المدنية. ولئن ترك لعهد خليفته ليندون جونسون أن يحقق معظم الإنجازات على هذا الصعيد، بقي أن إدارة كينيدي هي التي افتتحت هذه المسألة وأقحمتها في النقاش العامّ، كما تحقق في عهدها إنهاء الفصل العنصريّ في جامعتي ميسيسيبي (1962) وألاباما (1963) بوصفه الخطوة الأولى على طريق طويل وشائك.
بيد أنّ جوانب أخرى، يختلط فيها السياسيّ بالشخصيّ وبالبوليسيّ، لم تكن أقلّ حفراً لكينيدي وميراثه في الذاكرة والوعي الأميركيين. فهو، عند انتخابه في 1960، كان أصغر رئيس جمهورية في تاريخ الولايات المتحدة، كما كان أول كاثوليكي يتبوأ هذا المنصب الذي سبق لسياسيين بروتستانت أن احتكروه. وإلى ذلك، انتمى كينيدي، المتفرّع عن سلالة سياسية إيرلنديّة بالغة المحافظة والثراء، إلى الحزب الديمقراطي وترشح عنه. ثم إنه بدخوله البيت الأبيض، بعد مناظرة ذاع صيتها بينه وبين منافسه الرئيس الجمهوري اللاحق ريتشارد نيكسون، هزم واحداً من ألمع رموز الحرب الباردة واليمين التقليدي الأميركيّ. وأهم من ذلك أنه وصل إلى الرئاسة بعد عهد الجنرال دوايت أيزنهاور، قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. هكذا أوحى كينيدي للأميركيين وللعالم أنه يفتتح عالماً جديداً لما بعد الحروب والمنازعات الدموية المفتوحة، أقله في الغرب الأميركي والأوروبي. وبالفعل بات الكثيرون يؤرّخون لعقد الستينيات وتحولاته التحررية بوصول كينيدي إلى الرئاسة الأميركية، وبهذا جُعل الأخير واحداً من نجوم ذاك العقد وأيقوناته، مثل الممثلة مارلين مونرو أو فرقة البيتلز الغنائية في بريطانيا.
وفي ذلك كله ساعده صغر سنه ووسامته، كما ساعدته وسامة زوجته جاكلين وأناقتها، بحيث شكلا معاً ثنائياً واعداً وغنياً باللون والزي الشبابيين. فإذا جُمعت هذه المواصفات إلى مواقف التصلب في مواجهة السوفييت في كوبا وبرلين، تبدى كأن كينيدي كان، في وقت واحد، قائداً للحرب وقائداً للسلام، لا يقطع مع الماضي إلا أنه، مع هذا، يعد بالمستقبل.
لقد قـُـتل كينيدي عن عمر لا يتجاوز الـ 46 عاماً، ولم يكن قد أكمل السنوات الثلاث في البيت الأبيض. وهذا بذاته سبب كافٍ للتعاطف والتضامن. صحيح أنه لم يكن أول رئيس أميركي يُقتل، إذ سبقه ثلاثة رؤساء إلى ذاك المصير، لكنه كان أول رئيس يُصوّر مقتله. هكذا أنيط بتطوّر التقنيات الإعلامية أن تـُـدخل الحدث البالغ الدرامية إلى كل بيت أميركي يملك صاحبه تلفزيوناً.
فوق ذلك، جاء لغز مقتله وغموضه ليفتح الباب واسعاً أمام عقلية المؤامرة. وبموجب هذه العقليّة ذات المخيلة الخصبة، نُسج ما لا حصر له من تقديرات وتخمينات لم تخلُ مما يسلّي. ذاك أن المتهم بقتله، المدعو لي هارفي أوزوالد، ما لبث هو نفسه أن قُتل على يد المدعو جاك روبي فيما كان يُنقل من سجن إلى آخر. وعبر تجهيل الفاعل تم تجهيل الفعل فظهر من يتهم المافيا بالقتل، مثلما ظهر من يتهم كوبا والسوفييت. كذلك امتدت بعض الأصابع إلى وكالة المخابرات المركزية نفسها، ولم ينجُ من الاتهامات المتسرعة ليندون جونسون، نائب كينيدي الذي حل محله في رئاسة الجمهورية.
أما الأحداث التي تلت مقتله فكان لها، هي الأخرى، دورها في تعزيز صورة كينيدي وفي استثارة التعاطف معه. ذاك أن شقيقه روبرت، المدعي العام والمرشح للرئاسة، ما لبث أن قُتل بعد سنوات قليلة هو أيضاً. هكذا بدا للبعض، بقدر باد من التآمرية، أن ثمة عائلة مستهدفة بالقتل هي عائلة كينيدي، وأن ثمة أشراراً يتربصون بها ويعملون على إخراجها من السياسة والتاريخ الأميركيين.
أما على نطاق أوسع، فجاء انفجار حرب فيتنام في عهد ليندون جونسون، ثم تصاعدها في عهد ريتشارد نيكسون، ليجعلا عهد كينيدي أقرب إلى ماض جميل يستثير الحنين، إن لم يكن إلى عصر ذهبي.
وبسبب هذه الوقائع والأخيلة جميعاً، عاش كينيدي طويلاً بعد مقتله، ولا يزال يعيش.