بذل الروائي المصري صبحي موسى جهداً بالغاً في مطالعة مراجع ومصادر عدة كي يسجل سيرة تنظيم «القاعدة» وقادته، من جذوره إلى بذوره، في عمل روائي أعطاه عنوان «أساطير رجل الثلاثاء» الذي يمثل في حد ذاته لافتة دالة أو «جملة مفتاحية» لفهم العمل، فنحن أمام صناعة أسطورة دينية تم توظيفها لخدمة سياسات دولية، بطلها «رجل الثلاثاء» وهو اليوم الذي كانت تتم فيه الاجتماعات الدورية لمؤسس جماعة «الإخوان» مع أتباعه واستمر هذا تقليداً لدى الجماعة العجوز التي خرجت الجماعات والتنظيمات المتطرفة من تحت إبطها، أو ولدت على كفيها. تنطلق على التوازي، في ثنايا الرواية، رحلة ثلاثة رجال، الأول ثري سعودي من أصل يمني، يبدو وكأنه ابن لادن، والثاني فلسطيني جاء إلى مصر وانضم لجماعة «الإخوان» أيام البنا وكأنه عبدالله عزام، والثالث باكستاني من بين «الطالبانيين». بينما تحتل المرأة دوراً ثانوياً فهي إما زوجة متبرمة أو أم شكاءة بكاءة، لكنها ليست فاعلة في معنى هذه الرواية ومبناها، وهو ما لا يتجاوز واقعاً يقول بوضوح إن قصة «الأفغان العرب» أو «القاعديين» هي حكاية رجال حملوا أفكاراً متطرفة في رؤوسهم وبنادق على أكتافهم. وهذا التطابق الشديد بين الواقع الذي جرى وبين ما يقتضيه عمل روائي من عدم الاكتفاء بكونه مجرد مرآة عاكسة للوقائع والأحداث حاول الكاتب أن يردمه بسرد تفاصيل للمعارك والعودة إلى التراث للاقتباس والاقتطاف كي يخدم خيط السرد ويثريه، وتمكن بمهارة شديدة أن يحول ما يمكن أن يكون حاشية مستدعاة من بطن التاريخ القديم إلى متن متماهٍ في الحاضر عبر سطور الرواية. وعلى رغم أن المؤلف شاعر معروف لديه خمسة دواوين إلا أن زخم المعلومات التي احتشدت أمامه ورغبته في رسم ملامح كاملة لتنظيم «القاعدة» وأشباهه جعلت اللغة في الغالب الأعم ذات طابع تقريري مباشر ومحايد، تصل إلى المعنى من أقرب طريق، متجنبة إعطاء صور جمالية ومفارقات وشحنات عاطفية، ومبتعدة أيضاً عن الإغراق في رصد التفاعلات الإنسانية الطبيعية بين الأبطال والموزعة بين حركات الأجساد ولغة المشاعر، لتصبح العلاقة بينهم ذات طابع آلي تهبط وتصعد لتخدم القصة الرئيسية المعانقة للواقع، أو الملتصقة به. وليس معنى هذا أن الكاتب لم يفصح عن ذائقته الشعرية أبداً، بل جاد بها في مواضع قليلة، ليس عن عجز، وإنما لأنه قرر منذ اللحظة الأولى أن يستخدم اللغة في خدمة راوٍ عليم بكل شيء، مولع بالتفاصيل التي تحملها الأخبار والتقارير السياسية والكتب الفقهية والسير، لينتج رواية تراوح بين «المعرفية» و«التاريخية» و«التسجيلية» وتصبح، من دون مبالغة، مرجعاً في تتبع سيرة «القاعدة»، ولا ينقصها حتى تحقق ذلك كاملاً سوى وضع الأسماء الحقيقية مكان الأسماء المستعارة لأبطالها، ثم إعادة قراءتها لفهم كيف فكر قطاع من المتطرفين الإسلاميين، وكيف تحركوا في الزمان والمكان ليصنعوا ظاهرتهم التي تشغل العالم منذ عقود. وما يعزز مسار البرهنة على هذا التطابق أو التماهي أن الرواية حفلت بالأسماء الحقيقية لقادة المجاهدين الأفغان وقيادات من جماعة «الإخوان» وساسة وسعوديين ومصريين وسودانيين وروس وشخصيات دينية بارزة وقيادات حركية في تنظيم «القاعدة»، وبذلك انتهجت طريقة مختلفة عن روايات أخرى عالجت الظاهرة ذاتها مثل رواية «أبو عمر المصري» لعز الدين شكري، و«القوس والفراشة» لمحمد الأشعري. وقد يظن البعض أن السير على خريطة الواقع سيجعل العمل سهلاً، لأن من يعرف ما جرى لن يبذل جهداً في قراءة الرواية، لكن في الحقيقة فإن «أساطير رجل الثلاثاء» تحتاج إلى يقظة تامة حين نطالعها، وربما تحتاج أيضاً إلى خلفية تراثية لتبيان مدى تواشج الاقتباسات من الكتب القديمة مع النص، أو مدى تأثير الماضي في الحاضر بشكل طاغ. والجانب الفني في الرواية يظهر في ثلاثة أمور، الأول هو المعمار أو البناء، حيث بدأ المؤلف قصة «القاعدة» من منتصفها حيث ينتظر الشاب في محطة قطار بباريس الثري الرجل الفلسطيني المكلل بالجلال والمهابة، ثم يعود بنا مستخدماً طريقة «الفلاش باك» في تتبع الأصل العائلي للشاب والمنبع الأيديولوجي للرجل، لنجد أنفسنا في اليمن ثم منطقة نجد وفي القاهرة، ويتبادل الشخصان الفصول الأولى للرواية ثم يتوقف السرد عند نقطة الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، لتتصاعد الأحداث رأسياً بما يتطابق مع الواقع وتصل إلى نهاية مفتوحة يجسدها سؤال هو آخر جملة في الرواية يقول: «إلي أين الرحيل؟» وهي نهاية مبررة إذ أن لحظة إتمام الكاتب عمله وهو يوم 28 سبتمبر 2008، لم يكن البطل الحقيقي للرواية وهو بن لادن قد قتل بعد، وكان العالم كله يتساءل وقتها: أين هو؟ وما هو مصيره؟ وهل هو متواجد حقاً على قيد الحياة أم قضي نحبه؟ أما الأمر الثاني فهو وصف الكاتب للمعارك الطاحنة التي دارت على أرض أفعانستان، وما ظهر فيها من بطولات وأساطير وآمال وآلام. ومع أنه لم يعش هذه التجربة، وكتب عن شيء لا يعرفه جيداً، فإنه أعاد صياغة ما قرأه في هذا المضمار بشكل فني، لتبقى مشاهد الحرب هي الأكثر إنسانية في الرواية برمتها. والثالث هو محاولات الكاتب المتجددة في صناعة «التشويق» حتى لا يشعر القارئ بالملل أو ينصرف عن عمل قد يعرف نهايته بعد أن يمضي فيه قليلاً. ولهذا جاءت الرواية عبارة عن مقاطع صغيرة متلاحقة، بعضها ينتهي بطريقة ملغزة تثير الحيرة، أو توقظ الرغبة في معرفة الآتي، أو تمهد لما يأتي بعدها في إحكام. إننا مع «أساطير رجل الثلاثاء» أمام رواية «سياسية» باقتدار، لم تتدفق السياسة فيها إلى النص عن غير قصد كما يحدث عند كثير من الأدباء، بل هناك عمدية ظاهرة لطرح قضية سياسية عبر عمل روائي، فالفكرة السياسية تلعب هنا الدور الغالب أو التحكمي، ولذا أصبح على الكاتب طيلة الوقت أن يجعل من فكرته تلك مادة حية تتحرك داخل العمل الروائي من خلال الشخصيات على هيئة أفعال وتضحيات، وأن يظهر العلاقة بين النظرية والتجربة، أو بين الأيديولوجيا والعواطف التي يحاول أن يقدمها، دون أن يجعل أطروحته المجردة تفسد الناحية الفنية للرواية وتقضي على حيويتها وعذوبتها وانتمائها إلى عالم الأدب وليس إلى الكتابة السياسية التي تتوسل بالسرد، وهو ما نجح فيه باقتدار.