منذ نشوب الأزمة المالية الأخيرة، التي ضربت القارتين الأوروبية والأميركية بشكل خاص، يتوالى صدور الدراسات السياسية والاقتصادية التي تثير العلاقة الإشكالية بين الرأسمالية والديمقراطية، وذلك لكون عملية تسيير دواليب الاقتصاد في المجتمع الغربي يتحكم فيها غالباً بعض كبار رجال المال والأعمال بشكل قد يفوق تأثير الساسة أنفسهم، ولذلك تنعكس عليها، بالتبعية، أية خيارات أو قرارات خاطئة قد يتخذها بعض المسيِّرين الماليين والبيروقراطيين المصرفيين. وفي المحصلة يكون على المواطن، المستهلك العادي، دفع ثمن تلك القرارات والأخطاء الاقتصادية من مستوى معيشته وفرص عمله، بعدما يتم اتخاذ التدابير والسياسات التقشفية الرامية لاحتواء أي أزمة مالية أو نقدية، أو لكبح جماح أي مشكلة اقتصادية أخرى، من ذلك النوع المعتاد، بل الروتيني جداً، في النظام الإنتاجي الرأسمالي. ومن المعروف أن معظم الأزمات الاقتصادية تتحول، مع مرور الوقت، إلى أزمات اجتماعية وبخاصة عندما يستفحل تأثيرها على مستويات معيشة الناس وفرصهم في إرواء حاجاتهم الاقتصادية. ومن البديهي أن تكون لكل ذلك تأثيرات مباشرة على الحياة السياسية، حين تعصف سياسات التقشف القاسية بالحكومات في أول استحقاق انتخابي، وتؤدي اضطرابات الشارع أو حتى ثورات الخبز، إلى سيولة في المشهد السياسي لأي بلد قد يقدم نظامه على اتباع سياسات اقتصادية غير شعبية. وهذا الترابط الوثيق بين النسقين الاقتصادي والاجتماعي، وتأثيرهما في النسق السياسي، في مجتمعات رأسمالية عولمة السوق، واستطراداً انعكاسات الرأسمالية نفسها على فكرة وممارسة الديمقراطية، هي ما يثيره مؤلفو كتاب «الاقتصاد الاجتماعي والديمقراطية... راهنية كارل بولاني» الذي أصدرته منذ فترة قريبة مجموعة من الكتاب السياسيين والاقتصاديين الأميركيين والأوروبيين والأميركيين اللاتينيين. وكارل بولاني المشار إليه في العنوان هو فيلسوف ومؤرخ اقتصادي اشتراكي مجري الأصل، اشتهر بكتابه الذائع «التحول الكبير»، وعرف عنه نقده العميق للنظام الرأسمالي، ولذلك فإن مؤلفي الكتاب أرادوا هنا استحضاره لكي تكون بعض مفاهيم وفروض أطروحاته النقدية إطاراً نظرياً جامعاً ومنطلقاً ناظماً لعملهم التجميعي. وقد أشرفت على إصدار هذا الكتاب وقدمت له الأكاديمية والمؤلفة السويسرية إزابيل هلينكمب، وهي أستاذة لعلم الاجتماع الاقتصادي بجامعة جنيف، مع مشرف مشارك آخر هو الأكاديمي جان- لوس لافيل، الأستاذ بالمرصد الوطني الفرنسي للفنون والصنائع، ومنسق دراسات معهد كارل بولاني الأوروبي. وينطلق مؤلفو الكتاب وعددهم 12، كلاً من وجهة نظره الخاصة، من مقاربات ووحدات اهتمام بحثي مختلفة، محللين بعض مآزق النظام الرأسمالي العولمي، مبرزين أوجه الافتراق الراهنة بين الرأسمالية والديمقراطية، مستندين في كل ذلك على إحدى أكثر مقولات بولاني شهرة، وهي الربط السببي بين مجتمع اقتصاد السوق وتراجع الديمقراطية التمثيلية. بمعنى أن ثمة علاقة عكسية بين تغول ليبرالية السوق وقوة الممارسة الديمقراطية، فكلما قويت هذه ضمرت تلك. ولتبيان هذا الافتراض يقلب الكتاب ممارسات الليبرالية العولمية على مختلف جوانبها، مستحضرين بعض المؤثرات السوسيولوجية والثقافية والاتصالية فيها. وفي هذا السياق يخلصون إلى أن واقع الأزمة الاقتصادية الأخير زاد مجدداً من مظاهر تراجع الديمقراطية وزاد من حضور الأوتوقراطية في السياق الغربي، وفي ضوء تغول وسلطوية رأسمال المالي ومؤسساته الدولية الكبرى، هذا في حين أن ضغوط الأزمة كان يفترض أصلًا أن تحمل في طياتها إمكانية تحفيز بذور التضامن والديمقراطية. ومع أن بولاني كان ينطلق في نقده للديمقراطية من منظور اشتراكي، فإن في تحليلاته أيضاً تعميمات قابلة لأن تقرأ من وجهة نظر نقدية غير أيديولوجية، وبخاصة ما يتعلق منها بتفكيك وتحليل آليات عمل النظام الرأسمالي نفسه، والكيفية التي ظهر بها ما يسميه «التمويل العالي» خلال القرن التاسع عشر، الذي يعني وجود مؤسسات دولية كبرى تقوم بإقراض المؤسسات والدول، ومن خلال ذلك تمارس عليها نوعاً من التأثير الطاغي، هذا إن لم تفرض عليها إرادتها وتمل عليها سياساتها وقراراتها الاقتصادية من الأساس. وليس هذا كل شيء، بل إن افتراض وجود سوق ذي تنظيم ذاتي، وهي فكرة رأسمالية جوهرية، يقترن عادة بتسليع لكل شيء بما في ذلك أكثر القيم رمزية ومثالية وبعداً عن الطابع المادي، بل إن البشر وبيئتهم الطبيعية يتحولون هم أيضاً إلى سلع، بحسب توصيف بولاني، الذي يرى أن تغول رأسمالية السوق خلق دفقاً من الحاجات والسلع الزائفة، ما ترتب عليه تزييف أوسع وأعمق في الوعي السياسي، وفهم غير سليم، بل سقيم، للديمقراطية نفسها كفكرة وكممارسة. حسن ولد المختار الكتاب: الاقتصاد الاجتماعي والديمقراطية المؤلفون: مجموعة كتاب الناشر: أريس تاريخ النشر: 2013