أميركا ودواعي الإصلاح الضريبي
لنتخيل مكتبة عامة استُعيرت بعض كتبها وتأخر ردها أكثر من المسموح به، في هذا الوضع إما أن تلجأ الإدارة إلى العفو عن المتأخرين بعد إرجاع الكتب والاستمرار في العمل، وإما الإصرار على الالتزام باللوائح ودفع غرامة التأخير، وهما في جميع الأحوال خياران مقبولان عكس الاستراتيجية الثالثة التي تعد المتأخرين بعفو قريب مع الاستمرار في إطلاق الوعود دون تحقيقها على أرض الواقع، وهو المثال ذاته الذي ينطبق اليوم على النقاش الدائر حول الضريبة على الشركات، ففي الولايات المتحدة، لا يوجد أحد راضٍ تماماً عن نظام الضرائب المفروض على الشركات.
فالبعض يرى أن معدل الضريبة يبقى عالياً مقارنة بالدخل المحلي الإجمالي مع انخفاض الوعاء الضريبي، الذي يظل محدوداً ما يجعل من عملية التحصيل ضعيفة، والنتيجة أن العديد من الشركات الناجحة لا تدفع إلا نسبة هزيلة من الضرائب، هذا إذا كانت تدفعها أصلا في وقت تعاني فيها الموازنة العامة عجزاً متنامياً، وفي وقت أيضاً يسرح فيه عمال قطاع الدفاع وتخفض فيه المساعدات المقدمة إلى الأطفال في وضعية هشة.
لكن من جهة أخرى يعتقد بعض المحللين أن المشكلة ليست في ضعف القاعدة الضريبية، بل في ارتفاع معدل الضريبة المفروض على الشركات، وهو الأعلى مقارنة بباقي الدول الكبرى، لا سيما فيما يتعلق بالضريبة الصارمة التي يفرضها النظام الأميركي على أرباح الشركات الأميركية في الخارج، هذا الوضع يجعل من الصعب على الشركات الأميركية تعزيز قدرتها التنافسية، كما لا يشجعها على تحويل الأرباح إلى الولايات المتحدة ما دامت تخضع لنسبة ضريبة عالية، مفضلة إبقاءها في الخارج، والنتيجة أن العمال الأجانب هم الأكثر استفادة من استثمارات الشركات الأميركية بدلا من نظرائهم الأميركيين.
والحقيقة أنه بالنظر إلى الإصلاح الضريبي المنشود يبدو الرأيان متضاربين ويسيران في اتجاهين متعاكسين، ففيما يركز الرأي الأول على ضرورة رفع مداخيل الضرائب من خلال معالجة الاختلالات والثغرات وجعل الشركات أكثر انخراطاً في دفعها، يطالب الرأي الثاني بتخفيف الأعباء الضريبية على الشركات حتى تصبح أكثر تنافسية، لكن وفي الوقت الذي يتحقق فيه الإجماع حول ضرورة توسيع القاعدة الضريبية لرفع المداخيل ينهار هذا الاجماع عندما يتشعب الحديث عن الطريقة الأمثل لتوسيع تلك القاعدة، وفي هذا السياق يبدو أن الهدف الأساسي لبعض المدافعين عن مصالح الشركات هو تضييق القاعدة الضريبية من خلال خفض الضريبة المفروضة على أرباح الشركات في الخارج وقصرها على الداخل.
وبالرغم من هذا التضارب والاختلاف في الآراء حول الإصلاح، وصلت الأمور إلى جمود واضح إلى درجة يبدو فيها الجميع مستعداً للوصول إلى حل وتمرير إصلاح متوافق عليه، بحيث يبقى الموضوع الأساسي في الإصلاح الضريبي هو ذلك المرتبط بالضريبة على الشركات العالمية، فبمقتضى القانون الحالي تُفرض الضرائب على الشركات الأميركية التي تحقق أرباحاً في الخارج، مع إرجاع جزء منها في حال كان على الشركات دفع ضرائب للحكومات المحلية في البلدان التي تستثمر فيها، لكن هذه الضريبة مشروطة بتحويل الأرباح إلى داخل أميركا ولا تخضع للضريبة في حال ظلت في الخارج، وحالياً تحتفظ الشركات الأميركية بحوالي تريليوني دولار من الأموال في الخارج بسبب ما تعتبره كلفة باهظة لتحويلها إلى الداخل، وهو أمر لا تستفيد منه الشركات ولا المساهمون فيها، ولا حتى الحكومة، لذا تطالب الشركات بإعفاء ضريبي يشجعهم على إرجاع الأموال إلى الداخل.
لكن المعارضين يقولون إن تلك الشركات استخدمت طرقا ملتوية في المحاسبة لإجراء أنشطتها في بلدان معروف أنها لا تفرض ضرائب عالية لتفادي الضرائب، وأنه لا يجب تمتيعها بإعفاءات إضافية، والنتيجة أنه مع احتمال صدور إعفاء ضريبي، دون القطع بذلك، يؤخر عملية استرداد الشركات لأموالها في الخارج حتى في ظل عدم استفادتها من تلك الأموال، هذا يعني أن النقاش الحالي بشأن الإصلاح الضريبي يشجع على ما يراد الحد منه أصلًا، وهو إبقاء أموال الشركات في الخارج على حساب مصلحة الشركات نفسها والحكومة الأميركية التواقة إلى مداخيل إضافية غير قادرة على الاستفادة منها.
ولو أن النظام الضريبي حسم موقفه بأن أكد ضرورة تسديد الشركات للضرائب على أرباحها في الخارج ورفض فكرة الإعفاء، فإنه سيكون أفضل من حالة الضبابية وعدم اليقين السائدة راهناً، والتي فقط تؤخر الشركات من اتخاذ القرار المناسب، لكن بالطبع ليس هذا الخيار الأمثل، فكلما أحس دافع الضرائب بأن كاهله مثقل بالأعباء، ناهيك عن عدم استفادة الحكومة، سهلت عملية الإصلاح لأن الجميع متضرر، بحيث يمكن تخفيف العبء ودفع الشركات على الدفع أكثر ليستفيد الجميع من الوضع المالي الراهن.
وفي هذا الإطار، يتعين على الولايات المتحدة إلغاء الفرق بين أرباح الشركات في الخارج والداخل وفرض ضرائب على كافة أنواع الدخل من خلال معدل موحد ربما تكون في حدود 15 في المائة.
وفي هذه الحالة سيكون على الشركات دفع نفس معدل الضريبة على مداخيلها سواء في الخارج، أو الداخل، ولن يكون عليها الذهاب إلى بلدان أخرى للاستثمار ما دامت الضرائب هي نفسها، ومن شأن هذا المقترح أن يساعد على زيادة الدخل الحكومي، وتشجيع الشركات على تحويل أموالها للداخل.