يضعف البشر في كل مراحل الإنسانية، وتتعقد في وجوههم الحياة. ينظرون حواليهم بحثا عن إجابات لأسئلة تحيط بهم من كل جانب. في حالات كثيرة يلجأون للفكرة السائدة في المحيط الذي ينتمون إليه، فيشعرون براحة وطمأنينة خاصة في الانتماء إليها وتبنيها والدفاع عنها. في أحيان كثيرة تكون تلك الراحة والطمأنينة مزيفتين، مجرد مهرب من مواجهة الأسئلة الصعبة، أو هو تلحف بالدفء الذي يوفره إلغاء التفكير الفردي وإحالة "مهمة التفكير" على الآخرين، مما يتوهم المرء أنهم أكثر علما ودراية واطلاعاً. هؤلاء الأخيرون هم في حد ذاتهم مشكلة مركبة. إذ عوض أن يتواضعوا أمام الأسئلة الصعبة فلا يقدمون إلا إجابات مفتوحة، أو متشككة، أو يغلب عليها سمة الاحتمال، تراهم يبرعون في تسطير إجابات صارمة على أسئلة وأوضاع لا تحتمل الحسم، وكلها تقع في المنطقة الرمادية. عندما يسيطر فكر الأبيض والأسود على تناول الأسئلة الرمادية يتم اغتيال العقل، واستسهال الإتباع، والبحث عن صنم أو أصنام فكرية، أو شخصية الاتباعها وتوكيلها بالتفكير وإبداء الرأي الذي سرعان ما يتم تبنيه بصورة صنمية ببغائية لا نقد فيها ولا تفكير.
عندما يعترض كثيرون على الاعتراض على فلان أو علان لأنه علم كبير، أو عالم موقر، أو مفكر لا يشق له غبار، فإن اعتراضهم فيه شبه لمرض كبير، هو مرض الصنمية الفكرية. أعراض هذا المرض تقول إنه ليس من حق الأفراد العاديين أن يفكروا، أو يستخدموا عقولهم، إذ كل ما عليهم هو تلقي ما يتفوه به هذا العلم، أو العالم، أو المفكر، ثم اعتباره "الرأي الحاسم" في هذه المسألة أو تلك. والاعتراض هنا مرفوض لأنه لا يجوز في أعراف الأمراض الصنمية التجرؤ حتى على مجرد إبداء رأي مخالف. وهنا أيضاً تتبدى كل خزعبلات الرأي والرأي الآخر وحرية الاختلاف والتسامح مع وجهات النظر غير المتوافقة مع ما تبثه الأصنام الفكرية. فجأة يخرج حراس الأصنام وكأنما هم جيش عرمرم تم تدنيس مقدساته.
المأساة الكبرى في كل ذلك هي أن لا أحد من المتصايحين دفاعاً عن الأصنام التي تمت صناعتها إعلامياً وثقافياً واجتماعياً بطريقة ساذجة يرد الحجة بالحجة. كل ما يرد ويتم التراشق به هو اتهامات التكفير والتخوين والبصق بالكتابة والتهديد بأن يوم الحساب قادم لكل المارقين على الأصنام الفكرية، وسوف يلقون حسابهم العسير. ليس هناك من يتناول فكرة ما، يحللها، يفككها، يدحضها، ويقول لنا كيف أن الفكرة المعاكسة أو المضادة هي الأفضل ولماذا؟.
ردود عديدة وصلت كاتب هذه السطور حول مقالة تناولت إدانة فتاوى تبرير ذبح المدنيين في العراق بكونها تخلق مناخاً مشجعاً لهدر الدم في جو موبوء بالإرهاب والتطرف والقتل يمنة ويسرة بدعوى وتحت مسمى "المقاومة". الفتاوى المذكورة قالت إن كل من يسهل مهمة الاحتلال ينطبق عليه حكم المحتل، أي القتل والذبح. وقالت إن ذلك لا يستثني العراقيين أو المسلمين إذ أن مناط الحكم هو "تسهيل مهمة الاحتلال". قالت المقالة أن مثل هذه الفوضى في الفتوى تساعد جماعات الخاطفين الذين يستسهلون خطف الأبرياء وذبحهم وتصوير عملية الذبح ببشاعة وتوزيعها بطريقة أبشع في كل زوايا الأرض. والأهم من ذلك أن مثل هذا الذبح، خاصة الموجه إلى الشرطة العراقية، يقود إلى واحد من أمرين: الأول أنه يطيل عمر الاحتلال الأميركي لأنه يؤخر قيام أمن عراقي مستقل معتمد على شرطة عراقية، وهذا يسوغ للأميركيين البقاء في العراق بدعوى عدم استتباب الأمن. والثاني، أنه قد يسرع فعلا من خروج الاحتلال الأميركي، لكن أي خروج متعجل من العراق ومن دون قيام برنامج وطني سياسي عراقي بين الأطراف الرئيسية يعني اندلاع فوضى أفغانية في البلد يتمنى العراقيون بسببها عودة الاحتلال الأميركي أو العهد الصدامي. سيتعرض العراق إلى مخاطر التقسيم والطائفية والأفغنة في حال تم الانسحاب الأميركي على وجه السرعة وبتخبط. هل سيعتبر هذا انتصاراً لجماعات الخطف والخاطفين؟ نترك الإجابة على هذا السؤال للعراقيين الذين يدفعون وسيدفعون الثمن الباهظ.
التسيس أصعب وأكثر تعقيداً وأقل إغراءً من النزوع الطفلي نحو إطلاق الرصاص بعشوائية هنا وهناك. الرصاص له جاذبيته المعروفة، وهو عندما لا يكون مقاداً بالسياسة يكون كمراهقة فجة لا تعرف ماذا تفعل سوى الولوغ في شهوة ما.
كيف تكون هذه الكلمات "ناطقة باسم الاحتلال الأميركي"؟ وكيف يكون كاتبها "عميلاً" مدفوع الأجر، وتافهاً، و .. و .. و. كيف يمكن أن ينتشر هذا الاغتيال للعقل والسيادة للشتيمة بشكل يغلق أفق التفكير ويشطب اختيارياً إمكانية استخدام النباهة والتأمل عند البشر والأفراد؟ جانب من الإجابة، ربما السريعة وغير المكتملة، على هذا السؤال هو في انتشار الصنمية الفكرية التي تعطل عقل الجماعة لأن ثمة عقل لفرد أو مجموعة أفراد يفكر بالنيابة عن الجميع. عندما تغضب ردود كثيرة وتزعق وكل مناط دفاعها هو استهجان معارضة فكرة طرحها العالم الكبير، أو المفكر الكبير، ومن دون أدنى انخراط في النقاش أو السجال أو امتلاك القدرة الذ