يعد تنظيم «القاعدة» مثالاً في الوقت الحالي على ما يعرف في العلاقات الدولية بــ «اللاعبين اللادولة» أو «الأطراف غير المنتمية لدولة»؛ فهو يتبنى أهدافاً تتخطى الحدود الوطنية للدول، ويعبر عن رؤية جيوسياسية واستراتيجية تعد من صميم بنيته الفكرية والحركية، كما ينشط في مناطق مختلفة من العالم، وينتمي أفراده إلى جنسيات متعددة. وفي الكتاب الذي نعرضه هنا، «تنظيم القاعدة... الرؤية الجيوسياسية والاستراتيجية والبنية الاجتماعية»، يتطرق مؤلفه مراد بطل الشيشاني إلى نشاط «القاعدة» كجزء من التيار السلفي الجهادي، محاولاً شرح آليات التجنيد التي يتبعها، كما يرصد أدبياته، ويستقصي أبرز قادته المؤثرين، قبل أن يستشرف التحولات التي قد تمس وجود التيار -التنظيم نتيجةً لعواملَ مستجدة؛ كمقتل بن لادن، وبروز «الربيع العربي». وفي تأريخه لتنظيم «القاعدة»، يذكر الكتاب أن وجود «القاعدة» يعود إلى أغسطس 1988، لكنها تبلورت عملياً كتنظيم في عام 1998، حين تكتلت بعض فصائل المقاتلين العرب في أفغانستان، ثم اتسعت دلالتها تالياً لتصبح تياراً أكثر منها تنظيماً، حيث باتت معظم المجموعات الراديكالية المسلحة تُنسب إلى تنظيم «القاعدة». لكن اسم «القاعدة» برز في المشهد الإعلامي العالمي، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأُخذ بوصفه رمزاً لما تعتبره الولايات المتحدة الخطر الأكبر على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. وينظر المؤلف إلى التيار السلفي الجهادي كنمط جديد من الحركات الإسلامية، تولد عن محاولة التوفيق بين الأفكار الدينية والاجتماعية المحافظة والأفكار السياسية «الجهادية» التي تبلورت أواخر السبعينيات في مصر. ويعدد عوامل لعبت دوراً أساسياً في ميلاد التوفيقية «السلفية الجهادية» الجامعة بين النقيضين: الأفكار السياسية الثورية، والأفكار الاجتماعية المحافظة؛ مثل: الثورة الإيرانية عام 1979، والتدخل السوفييتي في أفغانستان مطلع الثمانينيات. ويتتبع الكتاب تطور الاستراتيجيات التي يتبعها تنظيم «القاعدة»، مبرزاً محورية «الحيز الجغرافي» فيها، إذ عمد السلفيون الجهاديون إلى تبني نوعين من الاستراتيجية منذ منتصف التسعينيات؛ أولها التمركز في ملاذ آمن تمثَّل في السودان، ثم في أفغانستان، حيث تخرّجت عناصر نفذت تفجيرات الرياض منتصف التسعينيات، وتفجيرات مومباسا ودار السلام عام 1998، وتفجير المدمرة «يو أس أس كول» باليمن عام 2000... وصولاً إلى هجمات سبتمبر 2001. والنوع الثاني من تلك الاستراتيجية كان عقب الحرب الأميركية على الإرهاب، واستهداف البنى التحتية لـ«القاعدة» في أفغانستان وتشتت عناصرها، وقطع قنوات التمويل عنها، حيث تحول التنظيم إلى اللامركزية، بإنشاء خلايا سلفية جهادية ينشط أفرادها وفقاً لظروف مكانهم. ثم لعب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 دوراً قوياً في عمليات التجنيد، فبرزت «القاعدة في بلاد الرافدين» (جماعة التوحيد والجهاد سابقاً)، و«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» (الجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقاً)، و«القاعدة في أوروبا». وربما تمثَّلَ الثابتُ الأساسيُ في استراتيجية السلفيين الجهاديين، وممثلهم تنظيم «القاعدة»، في إيجاد «ملاذات آمنة» يلعب كل واحد منها دوراً بديلاً عن الآخر بشكل يؤمّن انتقال المقاتلين من منطقة إلى أخرى. وغالباً ما تحتوي الملاذات على عوامل داخلية ملائمة؛ مثل الفقر، والبطالة، وغياب الدولة. وكذلك، من استراتيجيات التيار السلفي الجهادي، تكثيف نشاطاته في «أطراف العالم الإسلامي»؛ مثل آسيا الوسطى، وشمال القوقاز، والمنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وشرق أفريقيا. علاوة على تحويل الجهاد إلى ظاهرة محلية من خلال إقناع السكان بأيديولوجيته، عوضاً عن بناء التحالفات معهم. ولتفادي ما تعرّضت له في العراق (مواجهة «مجالس الصحوات» لهم)، والشيشان (الخلاف مع الحركة القومية الشيشانية)، عمدت «القاعدة» إلى سياسة ضم المحليين، فنشأت حركة «طالبان» باكستان، ومالت الجماعات الكشميرية إلى أجندة الجهاد العالمي، وانضم بعض أبناء القبائل اليمنية لـ«القاعدة»، وكذلك الطوارق في شمال مالي. بيد أن مقتل بن لادن في مايو 2011، شكّل نقطة تحول لدى المجموعات «الجهادية»؛ إذ جاء متزامناً مع غيابها عن المشهد السياسي العربي في تطوراته الجديدة المسماة «الربيع العربي». فقد أبرزت الحركات الاحتجاجية في العالم العربي أمرين أساسيين: أولهما أن التيار السلفي الجهادي لم يكن قادراً على تحقيق النتائج التي حققها الشبان العرب عبر التظاهر السلمي، وبالتالي كان السلفيون الجهاديون غائبين عن المشهد، وثانيهما أن الإحباط لم يدفع أولئك الشبان للعمل العنفي وتبنّي أجندة «القاعدة»، بل وجدوا في الفاعلية السياسية السلمية نتائج أكثر نجاعة مما حققه العنف المسلح، ليتضح أن التيار السلفي الجهادي لم يعد «البديل الأخير» للشبان العرب في مواجهة إحباطاتهم الاجتماعية والسياسية. ورغم ذلك التحول الدراماتيكي، يحذّر الشيشاني من أن استمرار العنف والفوضى في كل من سوريا واليمن وليبيا، يوفر بيئة مناسبة للتيار السلفي الجهادي، والذي طالما وجد في مناطق الأزمات حواضن جاذبة ومغرية له. محمد ولد المنى -------- الكتاب: تنظيم القاعدة... الرؤية الجيوسياسية والاستراتيجية والبنية الاجتماعية المؤلف: مراد بطل الشيشاني الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2012