حدود النظام المحلي واللامركزية
تعد المحليات بداية الممارسة السياسية ومنتهاها. بدايتها لأنها بمثابة مرحلة التعليم الأساسي لتدريس الديمقراطية، فهي الحقل البكر والخصب لتدريب المواطنين على المشاركة السياسية والتعاون الاجتماعي وتعليمهم مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وهي المعمل الحقيقي لاختبار مدة تجذر هذه القيم الرفيعة في صميم المجتمع، والمكان الأول لقياس مقدار وعي الناس بأتراح الوطن وأفراحه من ناحية وتحيزاتهم العاطفية تجاه النظام السياسي القائم والنظام الدولي المحيط بهم من ناحية أخرى.
ومنتهاها لأنها الوعاء الذي يصب فيه نجاح قدرات النظام السياسي على التوزيع العادل للموارد والأعباء وأدائه لوظيفتي التنشئة السياسية والتجنيد وتعبئة المواطنين حول قضاياه الداخلية والخارجية.
والمحليات حالة من اللامركزية الإدارية والسياسية تأخذ غالباً شكلين هما الحكم المحلي والإدارة المحلية، والحكم المحلي يمثل في العادة آخر حالات اللامركزية، حيث يتم نقل السلطة السياسية من المركز إلى الأقاليم (الفروع) وليس مجرد الاكتفاء بتفويض السلطة، ففي الحالة الثانية تظل المسؤولية (التي لا تفوض) في الجهة الرئيسية المركزية، ما يعطي هذه الجهة حقوق الرقابة والمراجعة والتوجيه بل وحق سحب التفويض ذاته، بينما في حالة الحكم المحلي تكون كل من السلطة والمسؤولية واقعة في الأقاليم، وفي حالة الإدارة المحلية يتم نقل السلطة الإدارية وهناك ثلاثة أشكال محتملة لذلك.
1- أن ينص الدستور أو القانون المعمول به على إمكان قيام الوحدات المحلية، بممارسة أي وظيفة غير ممنوحة صراحة في القانون، ويعد هذا أكثر الأشكال تطوراً وهو يكاد يجعل تلك الوحدات تصبح كيانات شبه مستقلة بقيد بسيط جداً، وهو ألا تمارس أي وظائف تمنعها القوانين والدساتير الأصلية.
2- أن ينص صراحة في القانون على الوظائف والسلطات المحلية التي لا يمكن ممارسة سواها إلا وفق تشريع صريح.
3- وفي الشكل الثالث، وهو المتبع في كثير من الدول النامية يكون النظام المحلي جزءاً من الهيكل الإداري العام ويكون أمامنا ـ في الحقيقة- شكل من أشكال الإدارة المحلية يقوم على أساس نقل السلطات الإدارية، وهناك علاقات قوية بين هذين الشكلين على المستوى النظري، لأن وظيفة الإدارة ترتبط عادة بوظيفة الحكم وعلى المستوى التطبيقي نظراً لأن الإدارة تعد الخطوة الأولى في الطريق إلى نظام الحكم المحلي.
وإذا كان ما تقدم يعبر عن مفهوم المحليات من الناحية الشكلية التنظيمية والقانونية فإن هناك الأبعاد الاجتماعية والسياسية والإنسانية لها، فالمحليات في النهاية بمثابة رباط روحي إنساني تنضوي تحته مجموعة من البشر يصهرهم في بوتقة واحدة ويجسد آمالهم ويحول قدراتهم نحو التنمية.
وهذا الجانب الأخير من تعريف المحليات يظهر إلى حد كبير مدى الدور الذي تلعبه القيم، سواء بوجهها العام الديني والخلقي أو بوجهها السياسي فما يربط هذه المجموعة البشرية التي تقطن وحدة محلية ما - فضلاً عن المصالح المتبادلة.
ولا شك في أن الممارسة السياسية الحقة تبدأ من الجذور التي تمتد إلى المستوى المحلي، والذي هو بمثابة الألف باء بالنسبة لها، والممارسة السياسية كسلوك لا تأتي من فراغ ولا تتم بشكل عشوائي، بل تنبع من قيم ومعارف سياسية تحدد أسلوبها وأهدافها، وتبلورعدداً من القضايا في اتجاه المجتمع والسلطة السياسية.
وفيما يتعلق بالمحلي، نجد أن هناك تأثيراً متبادلاً بين الأسلوب الذي يتخذه النظام المحلي وبين القيم السياسية المستقرة في عقول وضمائر المواطنين الذين ينتمون إلى الوحدة المحلية، فإذا كانت القيم السياسية السائدة في المجتمع "سلبية" تحض على الخوف من السلطة والتهرب من المسؤولية وتدني مستوى المشاركة، وذلك في ظل هيكل اجتماعي جامد تتحكم مستوياته العليا في الدنيا بطريقة لا تقبل المناقشة والمراجعة، فإن المجالس المحلية كجزء من هذا الهيكل الاجتماعي العام ستصبح خائفة من المستويات الأعلى، تتردد عند اتخاذ القرار حتى في إطار المساحة المحدودة لها من الحرية، كما سيصبح الناس أقل قدرة على ممارسة "الرقابة الشعبية" على أداء المجالس المحلية وأضعف رغبة في المساهمة في المشروعات المحلية إذا كانت القيم السياسية إيجابية ذات طابع ديمقراطي، وليس استبدادياً، وهذا في ظل هيكل اجتماعي يتصف بالمرونة والديناميكية - فإن الوحدات المحلية ستصبح أكثر شجاعة في اتخاذ القرارات وسيصبح المواطنون راغبين في التبرع المالي والجهدي من أجل إقامة المشروعات على المستوى المحلي، سواء بجهودهم الذاتية، أو بالتعاون مع الحكومة.
ومن جهة أخرى، يقوم النظام السياسي بتشكيل القيم السياسية عبر الأدوات الإعلامية والمعرفية التي يملكها، حيث إن التنشئة السياسية إحدى وظائفه، فإذا كان نظاماً سياسياً مستبداً غرس قيماً غير ديمقراطية، والعكس صحيح، ومن هنا تصبح الوحدة المحلية في مجالسها التنفيذية لها دورها في صناعة القيم السياسية للمواطنين لأنها جزء من النظام السياسي.
فالقيم السياسية السائدة تصنع عبر توجهات المواطنين الشكل الذي تتخذه الوحدة المحلية، فتصبح السلطة لا مركزية، ونبقى أمام "حكم محلي" إذا كانت قيماً ديمقراطية وتصبح السلطة مركزية وتشهد نظام "إدارة محلية" إذا كانت قيماً غير ديمقراطية، وفي الاتجاه المغاير تصبح القيم السياسية ذات طابع ديمقراطي إذا حرصت المجالس المحلية على تنمية الوعي الذي ينهض بهذه القيم والعكس صحيح.
وبالطبع، فهذا لا ينطبق بنفس الدرجة على ما يمكن تسميته بالقطاع الثالث الذي يقوم على العمل الأهلي التطوعي الخيري الصرف، بعد أن يظهر أن الدولة غير قادرة على تلبية كل الخدمات لكل الناس في كل موقع، وهذا القطاع يبدأ بالتقاليد التي تجسد المشاركة الشعبية مثلما يحدث في تكافل اجتماعي في الأفراح والأتراح بالقرى وما حضت عليه الأديان كالعشور "والزكاة" و"الوقف" فهذه الأشكال من العمل المحلي قد تتم بشكل حر وديمقراطي في ظل نظام سياسي مستبد، إلا أن النظام السياسي الديمقراطي يساعد بلاشك العمل المحلي مهما كانت صورته على أن يكون أكثر ديمقراطية.
وتؤثر القيم السياسية في العمل المحلي من منطلق تأثيرها في الأفراد المنتمين للوحدة المحلية، وهذا التأثير يدور في مجمله حول قضايا لها أبعادها القومية العامة والمحلية أيضاً مثل "التنمية" و"الديمقراطية" و"الاندماج" أو الوحدة الوطنية فهذه القضايا تحتاج إلى وجود وعي سياسي مؤسس على قيم سياسية إيجابية وفعالة، مثل المشاركة والتعاون والعدالة والحرية والتسامح.