لا تزال عملية القراءة تشكل لنا زاداً معرفياً متجدداً يمدنا بمواصلة الرحلة في دروب المعرفة والفكر، ويساعدنا على اكتشاف المفاتيح المعرفية القادرة على طرح الأسئلة وإيجاد العلاقات المعرفية الجديدة التي تربط بين عملية القراءة وغيرها من دروب المعرفة العلمية الأخرى، بما يساهم في عملية التراكم المعرفي الذي يرتقي بقدراتنا الفكرية والروحية. وها نحن اليوم نسلك درباً جديدة من هذه الدروب المعرفية الرحبة؛ نسعى من خلالها إلى اكتشاف طبيعة العلاقة بين القراءة وتحليل الخطاب. وكيف تكون القراءة مدخلاً أساسياً لتحليل الخطاب، وكيف تؤسس القراءة بناء معرفياً لا بديل عنه في تحليل الخطاب وفهمه وتفسيره. وسيتم توضيح هذه القضايا من خلال تحديد المقصود بمفهوم الخطاب، من حيث التعريف والسمات التي يتسم بها هذا المفهوم، وكيف يمكن تحليله وفهمه وتفسيره، وكيف تؤسس القراءة سبيلًا من أهم السبل التي لا يمكن الاستغناء عنها عند فهم وتحليل الخطاب. لنبدأ أولًا في تحديد معنى الخطاب Discourse، ومن الطبيعي أن نعثر على تعريفات متعددة ومتباينة لمفهوم الخطاب، حيث يكتسب هذا المفهوم دلالات مختلفة بالنسبة للباحثين في شتى المجالات والتخصصات المعرفية المتنوعة- على نحو ما يذهب ج. براون ج. يول في كتابهما «تحليل الخطاب: ترجمة د. محمد لطفي الزليطني، د. منير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997): ففي نظر عالم اللغة الاجتماعي مثلًا يتصل هذا المصطلح أساساً ببنية التفاعل الاجتماعي، كما تتجلى في الحوار اللغوي، وهو في نظر عالم اللغة النفسي ذو صلة بالطريقة، التي يتم بها فهم النصوص القصيرة المكتوية. بينما يرتبط هذا المصطلح لدى عالم اللغة بكيفية استعمال الناس اللغة كأداة للتواصل، وكيف يؤلف المتكلم رسائل لغوية يوجهها إلى المتلقي. فيقوم المتلقي بمعالجتها لغوياً على نحو خاص لتفسيرها. من ناحية أخرى، نجد أن مفهوم الخطاب يتداخل مع غيره من المفاهيم الأخرى، لذا نجد أن بعض الباحثين ينظرون إلى مفهوم الخطاب بوصفه مرادفاً لمفاهيم أخرى مثل مفهوم الكلام، أو الحديث، أو القول، أو اللغة، أو النص. وربما يعد مفهوم النص text من أكثر المفاهيم تداخلاً وتشابكاً مع مفهوم الخطاب، وربما لهذا السبب يذهب بعض الباحثين إلى القول بتطابق مفهوم النص ومفهوم الخطاب: فالنص هو خطاب، وأن النص والخطاب واحد، أي هما وجهان لعملة واحدة تسمى النص كما تسمى الخطاب. ويعكس هذا التعدد والتنوع في مفاهيم الخطاب الحقيقة التي أكد عليها المؤلفان، وهي أن الخطاب «ظاهرة معرفية اجتماعية مركبة». وأياً ما كان من أمر هذه التعريفات، وأياً ما كان من أمر تنوعها؛ فإن الخطاب يتسم بمجموعة من السمات التي يأتي على رأسها أنه ذات طبيعة لغوية تخضع لقواعد معينة. وأن الخطاب قد يكون منطوقاً أو مقروءاً، فردياً أو اجتماعياً، وأنه لا يتم إلا بين شخصين أو أكثر، كما أنه يفترض متحدثاً (قائل الخطاب) ومستمعاً(متلقي الخطاب). وأن الطرف الأول يحاول التأثير على الطرف الثاني، فكل خطاب له مضمون، ويحمل رسالة معينة، ويهدف إلى التأثير على السامع أو القارئ. ويمكننا تصور خط سير الخطاب في دائرة مترابطة الحلقات، وذلك على النحو التالي: مخاطب (مرسل) - رسالة - مخاطب (مرسل إليه) - قناة اتصال - قواعد (يتم تفسير أو فهم الخطاب وتحليله وفق هذه القواعد). وهذه دائرة موصولة الحلقات لا انفصال بينها. حيث تبدأ هذه الدائرة من المخاطب أو المرسل أو قائل الخطاب، فأياً ما كان نوع الخطاب، فلابد له من مؤلف أو قائل، فلا خطاب من دون مؤلف، وأن هذا الخطاب يحمل رسالة معينة، يود إبلاغها للمتلقي، ولا يمكن لهذه الرسالة أن تصل للمتلقي من دون وسيلة اتصال، وأن المتلقي (السامع أو القارئ ) يقوم بعملية تفسير أو فهم لهذا الخطاب في ضوء قواعد معينة. حيث يسعى المتلقي إلى التوصل للرسالة، أو الهدف الذي يحمله الخطاب، كي يتمكن من فهمه وتحليله. ومثلما تتعدد المعاني المرتبطة بمفهوم الخطاب، تتعدد أيضاً أنواع الخطاب وأشكاله، كأن نقول مثلاً الخطاب العلمي، أو الخطاب السياسي، أو الخطاب الفلسفي، أو الخطاب الإعلامي، أو الخطاب الأدبي وداخل الخطاب الأدبي يمكننا أن نقول، مثلًا، الخطاب الروائي أو الخطاب المسرحي، أو الخطاب الشعري). والأمر نفسه ينطبق على طرق تحليل الخطاب، حيث تتعدد وتتنوع طرق وأساليب ومناهج تحليل الخطاب. وهذه قضية لا يتسع هذا المقال للخوض في تفاصيلها. لكن يمكن القول إنه إذا كانت الغاية من تحليل الخطاب معرفة محتوى هذا الخطاب من أجل فهمه، وتحليله، ومعرفة كيف تشكل، وتحديد المرجعيات التي ساهمت في تشكله، وفهم طبيعة السياق، الذي تشكل في ضوئه والذي يمنحه معناه ومبناه، فليس ثمة طريقة واحدة ووحيدة لتحليل الخطاب، كما لا توجد طريقة صحيحة وأخرى خاطئة في هذا التحليل، حيث يحتمل الخطاب أكثر من معنى وقابل لأكثر من قراءة، ولكل قارئ رؤيته، أو منهجه الخاص، في قراءة الخطاب وفهمه وتحليله. لا توجد قراءة عشوائية، لكن يجب على القارئ أن يحدد المنهج الذي يتبناه في تحليل الخطاب، والأهم في كل ذلك أنه مهما كانت نوعية التحليل أو المنهج المستخدم في تحليل الخطاب، فإن القراءة تمثل الخطوة المحورية في هذا التحليل. ومن هنا نؤكد على كون القراءة، باستخدامها منهجاً بعينه، هي الخطوة الأولى في تحليل الخطاب، حيث القراءة تعد عملية ملازمة لتحليل الخطاب،كما أنها تؤسس بناء معرفياً يمكن القارئ أو المتلقي أو السامع من تحليل الخطاب وفهمه وتفسيره، ومن دون عملية القراءة يظل الخطاب صامتاً، وبلا معنى، لكن القراءة هي التي تمنح الخطاب معناه، وتنفخ فيه من روحها لتهبه معاني حياة متجددة ولانهائية، تتجدد بتجدد عملية القراءة، حيث القراءة هي أولى مراحل الفهم، وأن الفهم يفضي إلى إنتاج المعنى والدلالة. ولا شك أن انتاج المعنى أو المعاني المرتبطة بالخطاب عملية لازمة لتحليل كل خطاب، أياً كان نوعه، وفي ظني أن عملية القراءة هي الكفيلة بإنجاز هذه الغاية. فالقراءة هي التي تنقل الخطاب من المجهول إلى المعلوم، وتميط اللثام عن غموضه، وتنفخ فيه من روحها لتهبه معاني لا تكف عن التجدد، تأملوا معي بلاغة الخطاب الشعري عند محمود درويش حين يقول: أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ: اكتُبْ تَكُنْ ! واقرأْ تَجِدْ !