مع تمكن الجيشين الفرنسي والمالي من دخول العديد من المدن التي سيطر عليها «متطرفون إسلاميون» في شمال مالي، وأعلنوا فيها "إمارة" عاد مصطلح «حرب العصابات» يطل برأسه من جديد في ظل توقع أن يكون هؤلاء قد تركوا أماكنهم لإدراكهم حتمية الهزيمة في حرب نظامية، وأنهم سيلجأون إلى أسلوب حرب العصابات. ويعود هذا المصطلح إلى مطلع القرن التاسع عشر، حين كان الإسبان يهاجمون خطوط التموين والإمداد الطويلة للجيش الفرنسي في حرب شبه جزيرة إيبريا (1808- 1814)، الذي كان يرد بقسوة على السكان المدنيين. ومعنى الكلمة باللغة الإسبانية «الحرب الصغيرة»، وهو ينطبق على الحرب المحدودة وغير النظامية التي تستعمل مجموعات مقاتلة فيها ما يتوافر لها من إمكانيات اجتماعية وجغرافية ضد قوة عسكرية تتفوق عليها بشكل واضح. وظل هذا المسلك الإسباني هو النموذج الأصلي لحرب العصابات Guerrilla warfare الذي لاقى نجاحاً في إنهاء العدو، لاسيما في الريف، حيث الأرض الصعبة والأهالي المتلاحمون. وأضفى كثيرون طابعاً حالماً، وإن كان هذا لا يعني أنها أخفقت في تحقيق مكاسب عملية. وقد نشطت هذه الطريقة في القتال خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت روسيا والبلقان مرتعاً لها. بل إن الشيوعية نجحت في آسيا على أكتاف الفلاحين المتمردين، الذين تمكنوا من إنهاك السلطة عبر الكر والفر، بعد أن جندهم الزعماء اليساريون الذين وجدوا من الصعوبة بمكان إسقاط النظم الحاكمة من خلال المواجهة المباشرة في داخل المدن، على رغم أن رجال حرب العصابات قاموا بأعمال عنيفة بثت الرعب في نفوس الجميع، ولكنها لم تلق تأييداً من الناس، بل نفوراً وصداً واشمئزازاً، على عكس الريف الذي أيدها أهله وانخرطوا فيها بيسر. ومثل هذا الأسلوب جاء بماو تسي تونج إلى السلطة في الصين، ومكن الفيتناميين من هزيمة الأميركان على رغم الفارق التقني الهائل بين الجانبين، واتبع فيدل كاسترو ورفاقه هذه الطريقة ضد السلطة الباطشة حتى دان لهم حكم كوبا، وأدت إلى اضطرابات في كثير من الدول الفقيرة بأميركا اللاتينية. وقد اتبع «حزب الله» هذا الأسلوب في الحرب التي وقعت بينه وبين إسرائيل في صيف عام 2006، حيث كان مقاتلوه يراقبون عدوهم جيداً عبر الأنفاق والمخابئ، فيما لا يتسنى له رؤيتهم أو تحديد أماكنهم، ومارس الحزب أسلوب حرب العصابات، واستخدم أرض المعركة بشكل جيد، فحاصر قوات الاحتلال الإسرائيلي في أكثر من موقع. ويعد كتاب تشي جيفارا عن حرب العصابات هو أهم ما كتب في هذا الشأن، حيث وضع فيه خلاصة تجربته المريرة. وعوّل جيفارا على حرب العصابات في إمكانية كسب الحروب ضد الجيوش النظامية، لأنها تستمد قوتها من قوة الشعب، ولذا يجب ألا نقلل من شأن رجال العصابات لمجرد كونهم تنقصهم الأسلحة. ويراها جيفارا "الوسيلة الوحيدة للجهة التي تدعمها أغلبية الجماهير التي تعاني نقصاً في العتاد الذي يؤهلها لمقاومة التسلط. وأنها حالة لا تمنح الوصول إلى الفوز الكامل، وهي واحدة من الحالات الابتدائية للحرب، والتي ستنمو باستمرار حتى يكتسب جيش العصابات بنموه المطرد خصائص الجيش النظامي، وعند ذلك يكون جاهزاً ليوجه ضربات قاصمة للعدو ". ويوجد نوعان من حرب العصابات، الأول هو الكفاح المتمم لمهمة جيوش نظامية كبيرة، كما كانت الحال بالنسبة للمقاتلين الأوكرانيين في الاتحاد السوفييتي. والثاني هو العصابات التي تحارب السلطة، سواء كانت استعمارية أم وطنية مستبدة، بعد أن تتخذ لنفسها مكاناً للانطلاق، مثل ما حدث في الصين حين انطلق ماوتسي تونج من الجنوب، وفي فيتنام حين رسخ "هوشي منه" أقدام جماعته بين مزارعي الأرز، الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالاستعمار الفرنسي. وهناك عدة وصايا يوصي بها جيفارا، من واقع خبرته، رجل العصابات، يمكن ذكرها على النحو التالي: 1 ـ اترك عدوك يبحث عنك وضعه دوماً تحت نظرك. 2 ـ لا تقف أمام عدوك، بل اضربه من الخلف. 3 ـ اتبع طريقة الكر والفر، فمن واجب مقاتل العصابات أن يضرب ويهرب، ويترصد، ويختفي في كمين ليضرب مرة ثانية ويهرب، ويستمر هكذا من دون أن يترك أي مجال للعدو للراحة. 4 ـ لا تضرب عدوك، إلا إذا كنت متأكداً من إصابته في مقتل. 5 ـ الالتفاف حول القوة المهاجمة، وضربها من الأطراف. 6 ـ مهاجمة المواقع الخلفية للعدو، واستغلال كل نقاط ضعفه. 7 ـ اعتماد مبدأ الحركة الدائمة، وعدم إخلاء الميدان ما يحول دون تحول الاختراق إلى احتلال، مع إنشاء مناطق اشتباك بدلاً من الأرض المحتلة. 8 ـ الانتقال من أسلوب السد الواقف، وبعدها استدراج العدو إلى مناطق القتال. 9 ـ الاعتماد على قدرات الفرد المقاتل، بعد غرس الروح الفدائية فيه. 10 ـ الاعتماد على عنصر المفاجأة. 11 ـ العمل في أماكن قل سكانها وصعبت مسالكها. 12 ـ كن ثعلباً، فاعتمد على السرية والمفاجأة والمباغتة والحيلة. 13 ـ احمل منزلك فوق ظهرك، واختر من الأشياء ما هو أخف وزناً وأكثر فائدة، وأن يكون ما لا يمكن الاستغناء عنه، وعليك ألا تتخلى عنه إلا للضرورة القصوى. واكتف بأي نوع من الطعام، فإن لم تجد ما يسد رمقك، فصم يوماً أو يومين أو حتى ثلاثة، دون أن يؤثر هذا على معنوياتك. ويضع جيفارا عدة شروط في مقاتل "حرب العصابات" أولها أن يتصرف على أنه صاحب دور اجتماعي حمل سلاحه ملبياً غضب الشعوب ضد الغزاة، وأن يدرك أنه في حاجة طيلة الوقت إلى مساندة سكان المنطقة التي يقاتل فيها، وهذا أحد الشروط الأساسية، ومن هنا يفضل أن يكون من أهالي هذه المنطقة، له فيها أصدقاء، وعليه أن يكون ملماً بالمنطقة، من حيث المداخل والمخارج، والمخابئ المتوافرة، بما يمكنه من التحرك السريع. ويجب أن يحافظ مقاتل العصابات على حياته في أي معركة، على رغم أنه على استعداد دائم للتضحية بنفسه، ولا ينبغي أن يخوض أي معركة أو قتال دون التأكد من النصر، وأن يقتنع بأن الشعب لابد أن ينتصر في النهاية، وأن كل من لا يقتنع بهذه الحقيقة من المستحيل أن يصبح من مقاتلي العصابات، وعليه أن يمد يد المساعدة إلى الناس طالما أنهم لا يقفون ضده، أو يتآمرون مع الأعداء عليه.