الشريعة وجدل التأسيس القانوني
يدور اليوم جدل حاد في عدد من الساحات العربية بعد الصعود الانتخابي لتيارات الإسلام السياسي حول موضوع البدائل الإسلامية عن القوانين الحديثة التي أطلق عليها "القوانين الوضعية". وقد بدأت هذه المحاولات في الفكر الإسلامي مبكراً مع "عبد القادر عودة" في كتبه التي انتشرت على نطاق واسع وأثرت أقوى التأثير في الأدبيات الإسلامية. ويمكن أن نقسم إجمالًا الكتابات القانونية إلى اتجاهين كبيرين:
- اتجاه انطلق من مبدأ الشرعية الداخلية للنسق الإسلامي في مرجعيته المنزلة، وأفضى في الغالب إلى مقاربة سلفية تسعى إلى الرجوع للأصول المؤسسة، ولو بالقطعة مع التقليد التراثي الوسيط. القانون بهذا المعنى من مقومات العقيدة والهوية ومعياره هو النص المقدس، ويندرج هذا الاتجاه في المقاربة الوضعية بمفهومها الديني (أي وضع الشارع لمعايير الحكم).
-اتجاه انطلق من منظومة مقاصد الشريعة، تلمساً لأرضية مشتركة مع القوانين الحديثة، مما اقتضى تضييق جوانب الخصوصية التعبدية في الشريعة وتوسيع أبعادها الكونية الإنسانية. ولا شك أن الخلفية المرجعية لهذا الاتجاه هي فلسفة الحق الطبيعي.
تتعين الإشارة هنا إلى أن هذا التأرجح بين التصورين -الوضعي والقانوني – الطبيعي يظل بمنأى عن النقاش الفلسفي الحيوي حول المرجعية المعيارية للنظم القانونية، الذي هو أحد المحاور الرئيسية في الفلسفة المعاصرة.
ولقد برزت بوادر هذا الجدل بين مدرسة الحق الطبيعي التي بلغت أوجها النظري في فكر" ليو شتراوس" والمدرسة الوضعية المعيارية التي يعتبر الفيلسوف والقانوني النمساوي "هانس كلسن" أبرز ممثليها.
تمحور هذا الجدل الذي دار في ثلاثينيات القرن الماضي وما بعدها حول الأسس المرجعية للقوانين، فذهبت مدرسة "الحق الطبيعي" إلى أن النظم القانونية تحتاج إلى تأسيس معياري قوي لا يمكن أن توفره التوافقات الوضعية، فلابد من أن تستند لتصور مسبق للطبيعة العقلانية أو الاجتماعية للإنسان يخرجها من طابعها العرضي النسبي الذي يزيل عنها الطابع الإلزامي.
أما المدرسة الوضعية فقد اعتبرت أن الحقوق الطبيعية بدون ضمانة معيارية وضعية تظل هشة وغير فعالة، لا تتجاوز المنظور القيمي الخلقي المجرد. ينطلق شتراوس من التمييز بين الشرعية legality والمشروعيةlegitimacy في نقد التصورات الوضعية، معتبراً أن القانون لا تكون له المشروعية إلا إذا كان يخدم "الخير المشترك" common good حتى لو صدر عن سلطة شرعية من حيث البناء المؤسسي. بيد أن الخير المشترك لا يمكن أن يكون تواضعياً، بل لابد أن يصدر عن قوانين طبيعية.
لقد انحرفت الفلسفة السياسية منذ مكيافيلي حسب "شتراوس" عن فكرة التناغم الطبيعي للكون في تراتبيته الغائية التي توفر للبشر مقياساً موضوعياً للقانون بحيث يعكس طبيعة الأشياء ونظام العالم. ومن هنا انحطت أهداف النشاط الإنساني وقضت التقنية على عظمة الطبيعة، ودمرت النزعة التاريخانية الوضعية الفكر السياسي. ويخلص "شتراوس" من نقد التصورات القانونية الحديثة إلى ضرورة العودة للعصر الذهبي الذي تعبر عنه النزعة الطبيعية لدى الفلاسفة الأقدمين.
أما "كلسن " فيمثل أهم ممثلي المدرسة الوضعية في القانون، وقد اتكأ على فلسفة كانط في سعيه لبناء نظرية للقانون الخالص، أي وضع منظومة نظرية للقانون مجردة من كل مؤثرات إيديولوجية سياسية ومن كل نزعة طبيعية، في سعي جلي لبناء علم قانون مكتمل ومكتف بذاته. ويقتضي هذا الهدف تخليص القانون من كل الاعتبارات التي تتطابق مع موضوعه، بحيث يغدو القانون هو بعبارة كلسن "نسقاً من المعايير الضابطة لسلوك البشر".
والمعايير القانونية حسب تعريف كلسن هي الدلالة الموضوعية لفعل إرادي لا يصدر عن الطبيعة أو الواقع بل عن معايير أخرى أسمى تنتمي لنفس النسق القانوني، وبذا يكون أساس مرجعية وشرعية المعايير القانونية هي دوماً المعايير نفسها التي تأخذ شكل هرم تراتبي. في مقابل الاتجاهين الطبيعي والوضعي، يبلور الفيلسوف والقانوني الألماني "كارل شميت" أطروحته التي يطلق عليها مقولة "الأمرية"decisionism، وتعني الجانب السيادي في القرار المرتبط بالفعل السياسي بصفته أساس الشرعية القانونية.
يرفض شميث أطروحة الحق الطبيعي في نسختيها القديمة "اليونانية – المسيحية" والحديثة نظريات "العقد الاجتماعي" انطلاقاً من تصوره للسلطة المكونة "بكسر الواو" أي النظام الوضعي للدولة، فالدولة هي وحدها الضامنة للقانون والحارسة له، ولا معنى لمضمون جوهري للقانون. ينتقد "شميت كلسن" في فصله المعيار عن الأمر انسجاماً مع مقاربته للنسق القانون كمنظومة معيارية مغلقة ومكتفية بذاتها، وبذلك يفشل في تبين العلاقة العضوية بين العقلانية القانونية والطابع الوضعي للمعايير القانونية، تلك العلاقة التي تحيل ضرورة إلى سلطة القرار السياسي.
فلا يمكن للقواعد والمعايير القانونية أن تفرز بذاتها شروط فاعليتها التي لا تتوقف على تناسقها الصوري، بل لابد لها من سلطة تحولها إلى قرار له سلطة الإنجاز والفعل. كما أن المقاربة الوضعية لا يمكن أن تحل مشكل "الاستثناء" exception في القانون الذي تقصيه من الدائرة القانونية، في حين أنه هو جوهر القانون ومظهر البعد الأمري فيه.
وخلاصة موقف "شميث" هو إخضاع المعيارية القانونية للشروط الفعلية لتنفيذها أي سلطة القرار الأمري التي يقتضيها نفاذ القانون وصلوحيته. يذهب "شميث" في هذا التصور إلى استيعاب المنظور القانوني في الفعل الدستوري التكويني أي العلاقة العضوية بين أفراد المجموعة السياسية التي تتخذ شكل التناقض الجذري بين الصديق والعدو.
نخلص إلى القول إن النقاش الدائر راهناً حول قوننة الشريعة وتقنينها يقتضي طرح إشكالات المرجعية الفقهية في الإطار الفلسفي للمسألة القانونية كما بلوره الجدل بين الاتجاهات الثلاثة المذكورة.
في هذا السياق، يتعين ضبط الجوانب الأمرية في البناء الفقهي المرتبط بمصدره الإلهي، وجانبه الوضعي الذي يعبر عن آلياته التأويلية والبرهانية، ومنظوره المقصدي، الذي هو أفق الدلالة والاتجاه الغائي المفتوح للشريعة من حيث هي طريق ومسلك لا مدونة قانونية بالمعنى الحديث للعبارة.