الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه "الصراع بين العروبة والشعوبية في العراق"، يتناول موضوعاً قديماً متجدداً، أسال حبراً غزيراً من جانب النخب العربية ذات التوجهات القومية في العصر الحديث، لاسيما خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية التي تكرست في أثنائها طاقات هائلة للتعريف بالشعوبية وبيان عدائها التاريخي للأمة العربية. وقد أصبحت تلك واحدة من القضايا المركزية لـ"حزب البعث العربي الاشتراكي" (جناح العراق)، وجزءاً من مقرراته الفكرية السياسي، خلافاً لجناح سوريا الذي كان ولا يزال حليفاً لإيران. لكن مؤلف هذا الكتاب، وهو جلال السيد المتوفى قبل عدة أعوام، والذي ترك كتابه هذا مادة مخطوطة لم يتح لها النشر إلا مؤخراً، هو أحد مؤسسي "حزب البعث" في سوريا، وقد التحق بالفرع العراقي، وصار معنياً بأجندات صراعه الفكري، وعلى رأسها "مكافحة الشعوبية". فهذه الأخيرة، كما يعتقد السيد، لم تكن في زمن معين ولا في قطر مخصوص، وإنما كانت في كل عصر وفي كل مصر، وهي مستمرة حتى يومنا هذا. ويعتقد المؤلف أنه بينما كانت واقعة ذي قار بين الفرس وبني شيبان، والتي دارت فيها الدائرة على الفرس، مثلت "لطمة" محدودة وخفيفة، فإن القادسية التي جاءت في سياق الفتح الإسلامي، كانت "لطمة" شديدة أخمدت أنفاس الفرس، وجعلتهم يدخلون تحت سلطة العرب. ويجزم المؤلف بأن كل ما قام به الشعوبيون من أعمال لم يكن إلا انتقاماً من العرب بسبب موقعتي ذي قار والقادسية، ويستعرض نماذج مما ألقته الشعوبية في روع المسلمين للتقليل من شأن العرب، ومن ذلك تضخيم الأوار التي قامت بها شخصيات فارسية، أو أعجمية على حساب نظراء وأقران لها من العرب. ويقول المؤلف إنه بينما كان العرب مشغولين بمعاركهم السياسية والعسكرية، كان الفرس يضعون الخطط، ويرسمون البرامج لنصر يضاهي القادسية ويفوقها في نتائجها البعيدة، حيث تكونت الحركة الشعوبية في العقود الأولى لتاريخ الإسلام، كحركة "معادية للأمة العربية وعاملة على خذلها وتفكيكها". وقد سلكت من أجل ذلك أساليب مختلفة وسارت في ميادين متباينة. ويذكر الكتاب عدداً من الوقائع التي مهدت لإبعاد العرب عن حكم المسلمين وتسليمه لغيرهم، وكان التوفيق فيها حليفَ الحركة الشعوبية. تلك المعركة بين العروبة والشعوبية كان العراق منطلقها وساحتها الرئيسية، ليس فقط لأن العراق متاخم لفارس، ولكن أيضاً لأن الأعاجم من الفرس قد دخلوا الإسلام وأسهموا في بناء دولته وإثراء ثقافته، بينما نجد أن الروم المتاخمين لديار الشام انحسروا ولم يشاركوا في بناء المجتمع الإسلامي، إذ لم يدخلوا الإسلام أصلاً. ورغم ما قامت به الشعوبية من أعمال في إطار صراعها ضد العروبة، والذي ظل العراق مركزاً له، فقد عادت الأمة العربية لتستيقظ من جديد، حيث انبعثت مجدداً في أوائل القرن العشرين، وكان ذلك الانبعاث لطمة أخرى للشعوبية وانتصاراً عليها. ويدافع الكتاب عن الخلافة العثمانية ضد كل الذين يعتبرونها شكلاً من أشكال الاستعمار حلّ بالأمة العربية، قائلاً إن مصدر ذلك التوصيف إنما هم الكتاب الأوروبيون الذين درجوا على تنفير العرب من حكم الخلافة العثمانية. لكن هذه الأخيرة، في نظر المؤلف، لم تكن استعماراً للعرب، بل كانت أقرب حكم أجنبي للأمة العربية؛ فالعثمانيون لم يغتصبوا الخلافة من العرب اغتصاباً، ولم يكونوا متعصبين لعنصرهم التركي الطوراني، وقد ظلوا يضعون اللغة العربية موضع إجلال. هذا رغم أن الحكم الجديد في العراق سيقوم في عشرينيات القرن الماضي على أنقاض الخلافة العثمانية، وقد تم ذلك بعد تعهد من بريطانيا للعرب بالمساعدة على إقامة دولتهم الموحدة، لكن الإنجليز نكثوا بوعودهم وتركوا العرب فريسة للاستعمار الغربي الذي كان أحد أركانه الإنجليز أنفسهم. وكما تطرق المؤلف لأساليب الشعوبية في الماضي، فهو يذكر أنه كان لها في العصور المتأخرة طرق ثلاث عملت من خلالها على نخر الوجود العربي؛ وهي الماركسية، والصهيونية، والاستعمار، وإن كان يعود فيدمج الأخيرتين لما بينهما من تضامن واتفاق في المنهج والأسلوب. ورغم أن هناك من يؤمّنون على فكرة الصراع "الأزلي" بين العروبة والشعوبية، فثمة أيضاً من يتخوفون من اتخاذها غطاءً لشوفينية مضادة ونافرة من عالمية الإسلام وروحه الإنسانية المتسامحة. محمد ولد المنى -------- الكتاب: الصراع بين العروبة والشعوبية في العراق المؤلف: جلال السيد الناشر: مركز المحروسة تاريخ النشر: 2012