على رغم أن آلام الظهر، أو بالتحديد آلام منطقة أسفل الظهر، تعتبر من أكثر أسباب تردد المرضى على عيادات الأطباء، إلا أن معظمها يبقى بدون سبب واضح، وهو ما يعتبره البعض من أعظم إخفاقات الطب الحديث، بناء على أن آلام أسفل الظهر تعتبر مرضاً واسع الانتشار، ومع هذا لا يستطيع الأطباء تشخيص أسبابه، ناهيك عن علاجه. ومدى انتشار هذه الحالة الطبية يتضح من الإحصائيات والدراسات المعنية بمعدلات الإصابة بآلام أسفل الظهر في الدول المختلفة. ففي الولايات المتحدة مثلًا، يشكو 26 في المئة من الأميركيين من آلام أسفل الظهر مرة واحدة على الأقل كل ثلاثة أشهر، وبمرور كل ستة أشهر يشكو 41 في المئة من أفراد الفئة العمرية الواقعة بين 26 و44 عاماً من آلام أسفل الظهر. وتقدر الدراسات أن آلام أسفل الظهر تكلف الاقتصاد الأميركي ما بين 38 إلى 50 مليار دولار سنوياً، وتتطلب إجراء أكثر من 300 ألف عملية جراحية لعلاجها، مما يجعل الجراحات الخاصة بعلاج آلام أسفل الظهر -بالتوافق مع عمليات الرقبة- تحتل المرتبة الثالثة على قائمة أكثر التدخلات الجراحية انتشاراً على الإطلاق في الولايات المتحدة. ولا يختلف الوضع كثيراً في بريطانيا، حيث يقدر أن آلام الظهر تكلف الاقتصاد البريطاني حوالي سبعة مليارات جنيه إسترليني سنوياً، ما بين أيام العمل الضائعة بسبب الإجازات المرَضية، أو نتيجة مصاريف وتكاليف العلاج الباهظة. والغريب أنه مع هذا الانتشار الهائل، والتكلفة الضخمة المصاحبة لآلام الظهر، لا زالت جميع أسباب هذه الحالة غير معروفة أو مفهومة بشكل كامل. فعلى رغم اتفاق الأطباء على قائمة طويلة من الأسباب للإصابة بآلام الظهر، إلا أن جزءاً لا يستهان به من الحالات يظل مستعصياً على الفهم. وتضم حالياً قائمة أسباب الإصابة بآلام الظهر كلاً من الانزلاق الغضروفي، والتهابات المفاصل، وضيق القناة الشوكية، والإصابات المباشرة، والأمراض السرطانية، والعدوى، والكسور، والأمراض الالتهابية، وغيرها كثير. ولفترة طويلة فسر الأطباء الحالات التي لا تترافق بسبب مباشر وواضح على أنها نتيجة تقلص أو تمزق في إحدى عضلات الظهر، حيث ينتج هذا التقلص أو التمزق إما عن مجهود مفاجئ وعنيف كما هو الحال عند رفع جسم ثقيل بشكل خاطئ، أو نتيجة إصابة خفيفة، مستمرة ومتكررة، على العضلة. ومثل هذه الإصابات الخفيفة المتكررة تحدث مثلًا نتيجة وضعية الجلوس الخاطئ، أو وضعية القيادة الخاطئة، أو الوقوف بشكل خاطئ، أو النوم على فراش غير مناسب. وعلى رغم أن هذه الأسباب قد تؤدي إلى آلام في الظهر إلا أن احتمالاتها تزداد مع الأشخاص زائدي الوزن، أو من يعيشون حياة من الكسل تخلو من النشاط البدني، مما يضعف عضلات الظهر، ويجعلها أكثر عرضة للتمزق والإصابة. ومؤخراً أضيفت إلى قائمة أسباب الإصابة بآلام منطقة أسفل الظهر عيوب وراثية محددة في أحد الجينات، تؤدي بدورها إلى مشاكل في الغضاريف الواقعة بين فقرات العمود الفقري. وتتكون هذه الغضاريف (الديسك) من مادة جيلاتينية رخوة تحيط بها طبقة من الألياف الصلبة، وتعمل مثل "ماص الصدمات" الموجود في السيارات، كي تمنع احتكاك وارتطام الفقرات ببعضها بعضاً. حيث أظهرت دراسة أجراها علماء جامعة "كنجز كولج" بلندن على 4600 مريض، ونشرت هذا الأسبوع في العدد الأخير من إحدى الدوريات المتخصصة في الأمراض الروماتيزمية (Annals of Rheumatic Diseases)، وجود علاقة بين جين وراثي محدد (PARK2) وبين الإصابة بالحالة المعروفة بتحلل غضاريف المنطقة السفلى (القطنية) من الظهر، وهي الحالة المعروف عنها أنها تورث لدى 80 في المئة من المرضى، وتصيب غضروفاً واحداً على الأقل في ثلث النساء خلال فترة منتصف العمر. وفي هذه الحالة، تتيبس الغضاريف القطنية، وتفقد مرونتها وسُمكها، مما يؤدي إلى احتكاك الفقرات ببعضها بعضاً، وظهور نتوءات عظمية على الفقرات تسبب آلاماً مزمنة. ومثل هذا الاكتشاف يفتح الأبواب لابتكار وتطوير أساليب علاجية، تبطل التأثير السلبي للجين المعيب، وربما قد تريح الملايين من آلامهم المزمنة. ومن الممكن إضافة العيوب الوراثية حسب الدراسة السابقة إلى بقية الأسباب التي أصبحت تتبدى تباعاً من خلال دراسات أخرى، لتفسير آلام الظهر المزمنة، غير معروفة السبب حالياً. وإحدى تلك الدراسات أظهرت أن النساء الغارقات في مهامهن المنزلية أو متطلبات وظائفهن، ينتشر الشعور بآلام الظهر بينهن بمقدار الضعف، مقارنة بقريناتهن اللائي يعشن حياة أكثر استرخاء. ويفسر العلماء هذه الظاهرة بأن التوتر المزمن يتسبب في تقلص ألياف العضلات، وهو التقلص الذي يؤدي في النهاية إلى ضعف تلك الألياف، وزيادة قابلية العضلات للتعرض للإصابة بسهولة. والعكس أيضاً صحيح، حيث يؤدي التوتر النفسي وما يصاحبه من توتر في العضلات، إلى الشعور بآلام في العضلات المصابة من الأساس. وهذه الدراسة وإن كانت قد أجريت على النساء، وفي ظروف خاصة، إلا أنها تظهر تأثير التوتر المزمن على عضلات الظهر، وهو ما يمكن أن يطبق أيضاً على الذكور الذين يخضعون لتوتر مزمن بسبب ظروف حياتهم المهنية أو الاجتماعية، مما يؤدي لشعورهم بآلام مزمنة في الظهر، هي عبارة عن تجسيد مزمن لحالتهم النفسية المضطربة.