بين أول مبادرة سامية بالمنطقة للجم جماح الطَّائفية وآخرها، يكون قد مرَّ مائتان وتسعة وستون عاماً (1743-2012). بادر إلى الأُولى الملك نادر شاه (اغتيل 1747)، والأخيرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. كان الأول شيعياً منفتحاً (الأنصاري، الفقهاء حُكام على الملوك)، مع تركة مذهبية ثقيلة، والثاني سُنياً متجاوباً مع ضرورات العصر، يتضح ذلك مِن الإجراءات التي تمت في عهده لبلاده، مع تركة مذهبية ثقيلة أيضاً. فالاثنان في مواجهة شخصيات دِينية لا تعي معنى الحوار. فالإقدام على مثل هذه المبادرات لا يأتي مِن متشددين. إن فشلت الأولى لمعارضة المتزمتين للسب، مع إقرار إزالته، فلعلَّ النجاح يُكتب للثانية، ويتم تجاوز المتزمتين للتكفير. فبعد أكثر مِن قرنين ونصف القرن صار العالم بقاراته، بفعل التقدم العلمي، قبضةَ يدٍ. وللجواهري (ت 1997): "وتلاقت الدُّنيا فكاد مشرقٍ/ مِن أهلها بمغربٍ يتعثرُ". أترون كيف التاريخ يراوح بمنطقتنا.(296) عاماً ونحن نراوح في مكاننا! فتأمل. قال نادر شاه لأحد أبرز وجوه الحوار عالم بغداد عبدالله السُّويدي (ت 1760) مفتتحاً مبادرته: "في مملكتي فرقتان: الأفغان وتركستان مِن جهة، والإيرانيون مِن جهة أخرى، إحداهما تُكفر الأُخرى، مع أن التَّكفير شيء قبيح، فأردتُ أن أزيل ذلك" (الكركوكلي، دوحة الوزراء). ومصدرنا "دوحة الوزراء" الذي كُتب بأمر وزير العراق داود باشا (1817-1831)، وصدر عن "دار السَّلام" ببغداد (1830)، وترجمه عن التركية أحد خيرة المثقفين العراقيين موسى كاظم نورس (ت 1982). نقل الكركوكلي (ت 1824) عن السُّويدي في "النَّفحة المسكية في الرِّحلة المكية" و"الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية". لكن مَن يكره الحوار، على شاكلة السُّوري محب الدِّين الخطيب (ت 1969) يُقدم مذكرات السُّويدي بعبارة تلوح بالمغالبة لا المحاورة، والسُّويدي لم يقلها في مذكراته، وهي: "الذي انتهى بخضوع مجتهدي الشِّيعة" (مؤتمر النَّجف)، فجعل الخطيب الاتفاق خضوعاً، والشِّيعة "روافض". وقَدم "مؤتمر النَّجف" بـسبع وستين صفحة تكفر وتنبذ الطَّرف الآخر. لسنا بصدد سيرة نادر شاه القائد الصَّارم، الذي ورث الصَّفويين (1501-1722)، بعد أن كثرت انتصاراته، وقد عانت البلدان مِن حروبه، بل لقسوته، شك بولده فسمل عينيه (مكاريوس، تاريخ إيران). إنما نتناول صفحة مضيئة مِن سيرة الملك، وهو انفتاحه الدِّيني، فقدم على منع سب الخلفاء، بعد أن ظل قائماً لأكثر من مئتي عام. فلسنا ممَن ينسخ المضيئات بالمظلمات، وهي محاولة عظيمة للجم التَّضاغن الطَّائفي. لقد ورث نادر شاه تركة العداء السُّني الشِّيعي، رُوج للعنف المذهبي بالتَّكفير مِن قِبل الدولة العثمانية، وبإعلان سب الخلفاء الرَّاشدين رسمياً مِن الصَّفوية، مع علمنا أن السَّب بدأ لغرض سياسي في العهد الأموي ضد خليفة راشدي أيضاً، حتى أبطله عمر بن عبدالعزيز (ت 101هـ)، وبعد حين تبناه الصَّفويون للغرض نفسه، ليزيله نادر شاه. والشَّيء بالشَّيء يُذكر، شرع عبدالله المأمون (ت 218 هـ) بسب معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ) وعمم قراراً (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)، وبعد ستة وستين عاماً أخرجه المعتضد بالله (ت 289 هـ) ليعلنه، لكن العقلاء حالوا دونه. بينما كان شيخ المعتزلة ثمامة بن أشرس (ت نحو 215 هـ)، وفرقته تعنى بالعقل، المحرض الأول على السَّب. بعد أن زار نادر شاه النَّجف، وأمر بكسوة القبة العلوية ذهباً (1740)، توصل إلى فكرة عقد مؤتمر بين المذاهب، وبالتفاهم مع العثمانيين، وكانت المعضلة التي يواجهها، ويندفع العوام إليها بسهولة، هي السَّب مِن جانب التركة الصَّفوية، والتَّكفير بطلب مِن السَّلاطين العثمانيين لمواجهة الإيرانيين، حتى إنه شاع بين العراقيين: "بين العجم والرُّوم بلوة بتلينا" (العزاوي، العراق بين احتلالين)، فالعراق الذي كان ساحة للمتحاربين صار ساحة للمتحاورين أيضاً. حضر علماء الفريقين بوجود نادر شاه، وجرى الحوار. احتج علماء الشِّيعة برأي الإمام أبي حنيفة النُّعمان (ت 150 هـ) في "الفقه الأكبر" وبكتاب "جامع الأُصول" ففيهما عدم تكفير أهل القبلة (دوحة الوزراء). وطرح علماء السُّنَّة "السَّب"، فأقر علماء الشِّيعة بنبذه، فصرح المحاور السُّنَّي في الشِّيعة: "إنهم مسلمون لهم ما لنا وعليهم ما علينا". فصار الصلح، "وقام الجميع وتصافحوا، وكلُّ واحد يقول لصاحبه أهلاً يا أخي" (المصدر نفسه). فحرر الشَّاه: "إننا قررنا وجوب رفع السَّب، وعدم تفضيل الصَّحابة بعضهم على بعض... وكلُّ مَن يُخالف ما ورد في هذه الوثيقة ويُعيد السَّب... يستحق غضب الشَّاه". ومثلما تقدم بدأ السَّب بأمر حكومي في العهدين المذكورين، ووقف في العهدين بأمر حكومي أيضاً. بعدها حصل حفل بهيج، وقُدمت المبخرة، التي بُخر بها المجتمعون، وقفاً للضريح العلوي بالنَّجف. بعدها ذهب الطَّرفان بمعية نادر شاه للصَّلاة بالكوفة، وفضل الشَّاه أن تذكر في الخطبة فضائل الرَّاشدين والحسن والحسين، والدُّعاء للسلطان العثماني قبله، وصلى النَّاس بين مرسل اليدين، حسب هيئة الصَّلاة لدى الجعفرية وضامهما حسب الحنفية والشَّافعية، وكان عدد المصلين نحو خمسة آلاف مصلٍّ. رمى نادر شاه إلى الاعتراف بالمذاهب الخمسة، فأطلق تسمية المذهب الجعفري على الإمامية (الفقهاء حُكام على الملوك)، نسبة إلى الإمام جعفر الصَّادق (ت 148 هـ)، وكأنه أول مَن أطلقها، وربما يُحتج بقول الحميري (ت 179 هـ): "تجعفرت باسم الله فيمن تجعفرا"، وقيل إنها ليست للشَّاعر إنما لغلامه (الأصفهاني، الأغاني)، فيغلب على الظَّن أنها لا تعني المذهب الفقهي، فالافتراق في الأُصول والفروع لم يكن قد تبلور بعد. كان المسجد واحداً والأذان واحداً. يرد السُّؤال: هل أراد الشَّاه تكرار تجربة صلاح الدِّين الأيوبي (ت 589 هـ) مع الفاطميين؟! لا نظن، إنما نقرأ في سيرته كان متفتحاً على الأديان والمذاهب (تاريخ إيران)، وأراد وقف الحروب مع العثمانيين، وإخماد فتنة طال أمدها، مع أنها بدأت سياسية وتحولت وسيلة لمآرب خاصة على مدى التَّاريخ. مهما كان الحوار رفيعاً وفاتحاً للقلوب قبل البيوت والبلدان، لا يعني الجهلاء، فهؤلاء زُمنى تخشبت عقولهم، يبحثون عن الأزمة في غياهب الماضي. بمعنى أن الحوار لا يعني مَن جعل الكراهية عقيدةً، لذا يجب عدم السَّماح لهؤلاء ببث سمومهم، ولو عاش نادر شاه وساد الاتفاق مع العثمانيين لانقطعت الأرزاق بالسَّب والتَّكفير، محاولاً إنهاء الفتنة، في أن يكون للجعفرية ركن بمكة (العراق بين احتلالين)، فتلكأ العثمانيون، حتى اغتيل الشَّاه وأُسدل السِّتار على مبادرته، لكن السَّب توقف رسمياً.