احتل الصراع على فيتنام مكانة مركزية في تاريخ القرن العشرين. وقد جذب ذلك النزاع الطويل، الذي خيض على مدى أربعة عقود، كل قوى العالم إليه، اثنتان منها -فرنسا أولاً، ثم الولايات المتحدة لاحقاً- حاولتا إخضاع القوات الفيتنامية الثورية. إلا أن الهزيمة شكلت بالنسبة لفرنسا النهاية الفعلية لإمبراطوريتها الاستعمارية. أما بالنسبة لأميركا، فقد تركت فيها الحرب جروحاً غائرة ما زالت مفتوحة إلى اليوم. ولكن كيف حدث كل ذلك؟ هذا هو ما يحاول فريدريك لوجفل، أستاذ التاريخ بجامعة كورنل الأميركية، شرحه في كتابه الجديد: "جمرات الحرب: سقوط إمبراطورية وصنع فيتنام أميركا"، الذي يسعى فيه إلى إعادة سرد تاريخ حرب فيتنام اعتماداً على الأرشيف الدبلوماسي لعدد من الدول الذي فتح في وجه الباحثين للمرة الأولى. وفي هذا السياق، يُظهر لوجفل، الذي تحفل سيرته الذاتية بإصدار العديد من الكتب حول حرب فيتنام، كيف أن الاحتلال الفرنسي لجنوب شرق آسيا الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر أثر بشكل كبيرعلى الإخفاقات الأميركية بتلك المنطقة. ويبدأ الكتاب قصته مع مشاركة الزعيم الفيتنامي المقبل -حينها- "هو تشي منه" في مفاوضات السلام عقب الحرب العالمية الأولى. وكان "هو تشي" يعتقد أن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون صادق في قوله إن كل الدول لديها الحق في تقرير مصيرها؛ ولكن ذلك شكل إخفاق "هو تشي" الأول من بين إخفاقات عديدة بعد أن تخلف الأميركيون عن الوفاء بما وعدوا به. ومن بين المفارقات التي يشير إليها لوجفل أن "هو تشي منه" كان في كثير من الأحيان أكثر وفاء للقيم والمثل والإعلانات الأميركية حول الحرية الوطنية من الرؤساء الأميركيين أنفسهم، من هاري ترومان إلى ريتشارد نيكسون. وهو ما يعزى إلى حقيقة أن الزعيم الفيتنامي، الذي عاش ردحاً من الزمن في الولايات المتحدة في العشرينات من عمره، كان من المعجبين بالمبادئ والأفعال الأميركية، من ثورة 1770 ضد البريطانيين إلى حرصهم على النأي بأنفسهم عن الإمبريالية الأوروبية في آسيا. ولكن "هو تشي منه" أصيب بالدهشة والحيرة جراء الطريقة التي كان يتم بها تجاهل تلك القيم. فعلى رغم أن الرئيس فرانكلين روزفلت كان يعارض الإمبريالية الأوروبية، إلا أن الحرب الباردة سرعان ما دفعت القادة الأميركيين إلى دعم السيطرة الفرنسية على فيتنام. ففي البداية، وافقت أميركا على رغبات فرنسا في المنطقة على مضض؛ حيث كانت لا ترغب في التشويش على استقرار فرنسا الهش في مرحلة ما بعد الحرب عبر تشجيعها على حل إمبراطوريتها في ما وراء البحار. ولكن بحلول منتصف الخمسينيات، تغيرت المواقف؛ حيث كانت فرنسا ترغب في الرحيل والتخلي عن احتلالها المكلف لفيتنام، بينما كانت الولايات المتحدة خائفة من أن انتصار "هو تشي منه" من شأنه أن يؤدي إلى سيطرة الشيوعية على كل آسيا. وقد سميت هذه الحجة لاحقاً بـ"نظرية الدومينو"، التي اقتنع بها كل رؤساء أميركا خلال فترة الحرب الباردة. ولكنهم كانوا جميعهم مخطئين، مثلما يشرح لوجفل. وللإشارة، فإن نظرية الدومينو كانت تقول إن "بلدان شرق آسيا وجنوب شرق آسيا ليست لديها شخصية فردية، ولا تاريخ خاص بها، ولا ظروف فريدة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تميزها عن جيرانها". إلى ذلك، يلقي كتاب "جمرات الحرب" الضوء على تفاصيل التاريخ المأساوي لتحمل أميركا للعبء الفرنسي في فيتنام. ذلك أن الولايات المتحدة لم تصبح عالقة في جنوب شرق آسيا تدريجياً فحسب، وإنما فعلت ذلك مع تجاهل متعمد لما كان يمكن أن تعلمها التجربة الفرنسية هناك. وفي هذا السياق، ينقل الكتاب عن الجنرال ويليام ويستمورلاند، الذي قاد الجيش الأميركي من 1964 إلى 1972 قوله: "لماذا عليَّ أن أتعلم دروس الفرنسيين؟ إنهم لم يفوزوا بأي حرب منذ نابليون". والحال أنه لو تعلم الزعماء الأميركيون من الإخفاقات الفرنسية، لأدركوا ربما أنهم يكررون الأخطاء نفسها التي ارتكبها حليفهم، ومن ذلك الخطأ الأكثر فداحة على الإطلاق: ألا وهو عدم إدراك أن الفيتناميين مستعدون للقيام بأي شيء من أجل الحصول على استقلالهم من الحكم الأجنبي. فقد خسرت البلاد قرابة 3 ملايين جندي ومدني قاتلوا الأميركيين، الذين خسروا 58 ألف رجل أيضاً. والأكيد أن أي شعب مستعد لتقديم هذه التضحيات وتحمل مثل هذه الخسائر المهولة لا يمكن إلا أن يتغلب على خصمه. وهو ما كان في النهاية. ولعل المؤاخذة الوحيدة على كتاب لوجفل هي حديثه عن الفترة التي قضاها الكاتب الانجليزي جراهام جرين في جنوب شرق آسيا. صحيح أن "الأميركي الهادئ" التي كتبها جرين تعتبر من بين أفضل الروايات التي كتبت باللغة الإنجليزية حول حرب فيتنام، ولكنها لا تستحق سوى جملة أو جملتين في تاريخ فرنسا وأميركا في فيتنام. والحال أن فصلاً بكامله في "جمرات الحرب" خصص لجراهام جرين، ما شوش على تركيز الكتاب على التاريخ الدبلوماسي الدولي. وفيما عدا ذلك، يمكن القول عموماً إن لوجفل كان موفقاً في كتابة القصة الدولية الكاملة للكيفية التي بدأ بها المسلسل كله، حيث يأخذ الكتاب قراءه من نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما كان مستقبل الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية ما زال يبدو آمناً، مروراً بالحرب العالمية الثانية ثم الحرب بين فرنسا والثوار الفيتناميين، وصولاً إلى القرار الأميركي الحاسم ببناء فيتنام الجنوبية والدفاع عنها. محمد وقيف الكتاب: جمرات الحرب المؤلف: فريدريك لوجفل الناشر: راندم هاوس تاريخ النشر: 2012