الأخطاء البشرية والكوارث الإنسانية
خصصت العديد من وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية، مساحات واسعة لمناقشة قضية استخدام ما يعرف بتقنيات خط المرمى في لعبة كرة القدم، قبل وبعد اجتماع مجلس إدارة الاتحاد الدولي لكرة القدم يوم الخميس الماضي، وموافقته على إمكانية استخدام تقنيتين
(GoalRef & Hawk-Eye)، لتحديد ما إذا كانت الكرة قد تخطت خط المرمى بالفعل، ومن ثم احتساب حكم المباراة لهدف صحيح. ويأتي هذا القرار بعد سنوات من الجدل بين فريقين، يرى أولهما أن استمرار الاعتماد على حاسة البصر للحكم ومساعديه لا يتناسب مع التطورات التكنولوجية الحديثة، وكثيراً ما يصدر عنه أخطاء، ينتج عنها ربح أو خسارة مباريات وبطولات بأكملها، بينما يرى الفريق الآخر أن الخطأ البشري هو جزء من سحر وجاذبية لعبة كرة القدم، وأن أتمتة اللعبة سيتسبب في إبطاء إيقاعها وسيفقدها جزءاً كبيراً من إثارتها المعروفة للملايين.
هذا الجانب، أو الخطأ البشري، كان موضوع تغطيات إعلامية مشابهة في نفس الأسبوع، فيما يتعلق بحادثة الرحلة رقم 447 للخطوط الجوية الفرنسية، والتي سقطت فوق المحيط الأطلنطي في أول أيام شهر يونيو عام 2009، بعد ساعات قليلة من إقلاعها من مطار "جاليو" بمدينة "ريو دي جانيرو" البرازيلية، باتجاه مطار "شارل دي جول" بالعاصمة الفرنسية باريس، مما أدى إلى وفاة جميع الركاب وعددهم 216 راكباً، بالإضافة إلى جميع أفراد الطاقم الاثنى عشر، مما جعلها الحادثة الأسوء في تاريخ "إير فرانس" على الإطلاق. ورغم أن التقرير النهائي للحادث، والذي صدر في نفس يوم قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم بخصوص تقنيات خط المرمى، قد ألقى باللوم على مشاكل فنية وتقنية في هذا الموديل من طائرات الإيرباص(Airbus A330-200) ، إلا أنه أوضح أن تلك المشاكل لم تكن تتسبب في الحادث لولا سلسلة من الأخطاء البشرية لقائد الطائرة ومساعديه، أدت لفقدانهم السيطرة على الطائرة.
والغريب بالفعل، أنه في اليوم نفسه الذي صدر فيه قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم، وتقرير لجنة التحقيقات في حادث الرحلة رقم 447 لإيرفرانس، الخميس الخامس من شهر يوليو الجاري، صدر ملخص تقرير لجنة التحقيقات في حادثة المفاعل الياباني بفوكوشيما، ليلقى بجزء من اللائمة على الثقافة اليابانية خلف الأسباب الأساسية للحادث. فرغم أن الحادث الذي وقع في الحادي عشر من مارس عام 2011، كان سببه المباشر هو الزلازال الذي وقع قرب السواحل الشمالية الشرقية لليابان، وما تبعه من موجات تسونامي ضخمة، هدمت وتخطت الدفاعات الساحلية، وأغرقت مولدات الطاقة الجانبية، وعطلت مضخات تفريغ المياه، إلا أن هذا السيناريو وقع من الأساس بسبب أخطاء بشرية في تصميم المفاعل، وخصوصاً اختيار موقعه على مقربة من سواحل معروف تعرضها لزلازل وموجات تسونامي، بالإضافة إلى شلال الأخطاء الذي تدفق في المراحل الأولى، من قبل الشركة المشغلة للمفاعل، ومن قبل السلطات الحكومية، والجهات المسؤولة عن الاستجابة للطوارئ، مما جعل هذه الكارثة هي الأكبر في تاريخ المفاعلات النووية، منذ كارثة مفاعل "تشيرنوبل".
هذا التواتر من التقارير ومن ملخصاتها المبدئية في غضون يوم واحد، يظهر بشكل جلي دور الخطأ البشري في التسبب في حوادث وكوارث، بداية من صناعة الطاقة النووية، ومروراً بقطاع الطيران المدني وأخطاء الطيارين، وجهود اكتشاف الفضاء الخارجي ممثلة في حادثة انفجار وسقوط مكوك الفضاء تشالنجر عام 1986، ونهاية بالأخطاء الطبية، التي تعتبر من أهم قضايا الرعاية الصحية، بسبب فداحة ثمنها الإنساني، والاقتصادي أيضاً. فداحة هذا الثمن تتضح من دراسة أجراها معهد الطب في الولايات المتحدة (Institute of Medicine) عام 2000، وأظهرت أن الأخطاء الطبية تتسبب فيما بين 44 و 98 ألف وفاة سنوياً، وأكثر من مليون إصابة وعاهة في المستشفيات الأميركية. وفي دراسة لاحقة عام 2006، ظهر أن الأخطاء الطبية المتعلقة بالأدوية والعقاقير هي الأكثر شيوعاً على الإطلاق، حيث تتسبب هذه الأخطاء في ضرر وأذى لمليون ونصف مليون مريض على الأقل في الولايات المتحدة. أما على صعيد الثمن الاقتصادي، فتشير التقديرات في الولايات المتحدة إلى أن الأخطاء المتعلقة بالأدوية والعقاقير تكلف سنوياً حوالي887 مليون دولار 3.25( مليار درهم)، بين طائفة الأفراد الذين يستفيدون من نظام الرعاية الصحية المجاني، وهو الرقم الذي سيتضاعف عدة مرات إذا ما أدرج الأفراد الذين يعتمدون على الرعاية الصحية مدفوعة الأجر، وعلى التأمين الصحي الخاص.
وبالنظر إلى أن حادثة "إير فرانس" نتج عنها 228 وفاة فقط، كما أن الوفيات الناتجة عن حوادث الطائرات تبلغ بضع المئات نادراً، وأعداد أقل بكثير غالباً، وبالنظر إلى أن حادثة "فوكوشيما" ارتبطت بـ573 وفاة فقط، وحتى حادثة "تشيرنوبل" التي يقدر البعض أنها تسببت في وفاة 25 ألف شخص نتيجة انتشار الإصابة بالأمراض السرطانية في العقود اللاحقة، يظل ثمنها الإنساني محدوداً بقدر كبير، مقارنة بالوفيات التي تنتج عن الأخطاء الطبية، والتي تصل بها بعض التقديرات إلى 98 ألفاً عاماً بعد عام، في الولايات المتحدة فقط.
د. أكمل عبد الحكيم