تحكي الأساطير اليونانية القديمة قصة امرأة تدعى "باندورا"، صنعها الإله "زيوس" عقابا للجنس البشري على سرقته لسر كيفية إشعال النار، وهو السر الذي كانت تحتفظ به الآلهة لنفسها، ولم تكشفه من قبل لأية مخلوق كان نبات أو حيوان. وقبل أن تقدم الآلهة هذه الهدية المسمومة للإنسان، حملوها بهدية أخرى لتقدمها للجنس البشري في شكل صندوق يجب أن لا يفتح أبدا. وعلى عكس هذه النصيحة غير المخلصة، زرعت الآلهة في شخصية "باندورا" حب الفضول والشغف بالاستطلاع. وعندما وصلت "باندورا" إلى الجنس البشري، وبعد أن تزوجت من البطل الأسطوري "إبيمثيوس"، غلبها فضولها وفتحت الصندوق الذي أهدته له الآلهة سابقا. وتحكي الأساطير أن هذا الصندوق والمعروف بصندوق "باندورا" (Pandora’s box) احتوى في داخلة على قائمة طويلة من المآسي التي لم يكن يعرفها الجنس البشري من قبل، مثل الفقر والجوع والأوبئة والجرائم والحزن. هذه القصة الكلاسيكية ترمز إلى أن ذكاء الإنسان وحبه للمعرفة (كشفه لسر النار)، قد يجلب عليه الكثير من المصائب والآلام (محتويات الصندوق). وعلى حسب هذه التفاصيل تصبح الترجمة العربية لـ"Pandora’s box" على أنه صندوق العجائب ترجمة خاطئة، حيث يجب أن يترجم على أنه صندوق المصائب التي يجلبها الفضول القاتل أحيانا.
حضرتني هذه القصة المشهورة في بداية هذا الأسبوع، عند قراءة خبر صادر عن الجمعية الملكية (The Royal Society)، وهي من أعلى الجهات العلمية المرموقة في بريطانيا. هذا الخبر مفاده أن كبار العلماء البريطانيون يؤيدون حملة دولية، تهدف إلى منع الولايات المتحدة من الحصول على منع دولي شامل يحظر الاستنساخ بجميع أنواعه. ويشارك أعضاء الجمعية الملكية البريطانية في هذا الموقف، سبعين جهة علمية أخرى من مختلف بقاع وأصقاع ودول العالم، كل واحدة منها تتمتع بثقلها ومكانتها في الأوساط العلمية الدولية. وقبل أن نستطرد في الحديث عن الحديث عن مغزى هذا الخبر ودلالاته، يجب أن نتوقف قليلا ونسترجع بعض الأساسيات عن أنواع الاستنساخ، وما تحاول الحكومة الأمريكية تحقيقه على المستوى الدولي في هذا الموضوع من خلال الأمم المتحدة!
فبوجه عام يوجد نوعين من الاستنساخ، هما الاستنساخ الإنجابي والاستنساخ العلاجي. في النوع الأول أو الاستنساخ الإنجابي، يتم استنساخ الإنسان بكامله بجميع مكوناته الوراثية والجينية، ويتوقع أن ينتج عن مثل هذا النوع إنسان كامل متكامل. وهي العملية التي تمارسها الطبيعة منذ ملايين السنين وفي الكثير من الحيوانات والنباتات وحتى بني البشر، ويطلق على هذه العملية الطبيعية "التوأمة المتشابهة". أما النوع الثاني أو الاستنساخ العلاجي، فيمكن من خلاله استنساخ عضو واحد أو أكثر حسب الطلب. ويعتمد الاستنساخ العلاجي على القدرة الخارقة للخلايا الجذعية، والتي تقسم إلى ثلاثة أنواع مختلفة الإمكانيات والقدرات. النوع الأول والقادر على تشكيل كائن حي بالكامل من البداية إلى النهاية، بجميع أنسجته وأعضائه وأجهزته. والنوع الثاني من الخلايا الجذعية لا يمكنه إنتاج جنين كامل، وإن كان في مقدوره أن يصبح أي نوع كان من الأنسجة، مثل الأنسجة العصبية أو العضلية أو غيرها. أما النوع الثالث فيمكنه إنتاج نوع واحد من الخلايا فقط لا غير، مثل خلايا الدم أو خلايا العظام.
ولكن منذ بداية بحوث الاستنساخ بنوعيه والخلايا الجذعية بوجه عام، وهي تواجه الكثير من التساؤلات والمعضلات الأخلاقية. فرغم أنه يوجد اتفاق شبه عام على ضرورة تحريم الاستنساخ الإنجابي، إلا أن الاتفاق ليس بنفس الدرجة فيما يتعلق بالاستنساخ العلاجي. فالبعض يرى أن فكرة الاستنساخ العلاجي سوف تمنحنا أعضاء بشرية وقت اللزوم والحاجة، وأن تلك الأعضاء ستكون متطابقة وراثياً مع أجسادنا، مما يوفر حلاً لمشكلة عدم التطابق الوراثي للأعضاء المنقولة، والذي يتطلب أن يتعاطى المريض أدوية مثبطة لجهاز المناعة، تفادياً لقيام الجسم بمهاجمة وتدمير العضو الجديد. هذا بالإضافة إلى أن توفر تلك الأعضاء وبأية كمية مطلوبة يعتبر ميزة لا تقدر بثمن، في زمن ازداد الطلب فيه بشدة على الأعضاء البشرية المتبرع بها وندر المتوفر منها. حيث ستصبح خلايانا مصدر قطع غيار لا ينضب لأعضائنا، نستخدمه في حالة فشل الأعضاء أو عندما تصبح زراعة عضو جديد هي البديل الوحيد للبقاء على قيد الحياة. بينما يرى آخرون أن الأبحاث في مجال الاستنساخ العلاجي، سوف تؤدي حتما في النهاية إلى قيام بعض العلماء الخوارج بإجراء استنساخ إنجابي لكل من يقم بدفع الثمن المناسب. ولذا في الحقيقة إذا ما سمحنا بالقيام بالاستنساخ العلاجي، سنكون مثلنا في ذلك مثل "باندورا" عندما فتحت صندوقها الشهير، وعلينا أن نتوقع خروج الكثير من المآسي والمصائب، وربما تغيير تاريخ الجنس البشري عن بكرة أبية. ويستدل هذا الفريق على مخاوفه تلك من محاولات الطبيب الأمريكي "بانوس زافوس" (Panos Zavos)، والتي يسعى من خلالها - دون نجاح حتى الآن- في استنساخ إنسان بالكامل. وفي بداية هذا الأ