عندما نقول إن الرأسمالية الإمبريالية العولمية الأميركية المعاصرة قد أفرزت نقيضها على صورتها ، وهي عبارة استعملناها في مقالات سابقة، فنحن نعبر، بصورة مختصرة مختزلة، عن واقع عالمي ومحلي متعدد المكونات متشابك العلاقات. إن الصورة المشخصة التي قد توحي بها هذه العبارة، والتي تختزل الموضوع برمته في رجل اسمه بوش من جهة وابن لادن من جهة أخرى، صورة مغرية لأنها مبسطة إلى الحد الذي يريح الذهن! هذا في حين أنها صورة خطيرة على عملية إدراك حقيقة الواقع خطورة الشجرة التي تخفي الغابة• ومهمتنا في هذا المقال بيان ذلك بقدر ما يسمح به المجال•
لنبدأ بلفظ نقيض • في اللغة العادية يفيد معنى الضد، فالسواد نقيض البياض أو ضده• ومع أنه لا يوجد بياض مطلق ولا سواد مطلق لأن العلاقات في أشياء العالم الطبيعي علاقات نسبية -الطويل هو دائما أقصر من شيء وأطول من آخر••• إلخ- فإن الفهم العادي يتصور النقيضين كضدين من جميع الأوجه، لا ينتهيان إلى شيء مشترك•
ليس هذا هو المقصود بلفظ النقيض في لغة المنهج الجدلي (الديالكتيك) الذي ينظر إلى الأشياء ليس من خلال انفصالها عن بعضها انفصالا مطلقا، بل من خلال ارتباط بعضها مع بعض بعلاقات جدلية، علاقات تنتهي بالنقيضين إلى شيء ثالث يتجاوزهما وفي الوقت نفسه يحتفظ بشيء منهما• والمهم في مجال العلاقات الجدلية هو أن نتاج النقيضين يمثل دائما تقدما بالنسبة إلى الطرفين الذين يدين بالوجود لهما• وهذا هو معنى التجاوز ، ويعبر عنه أحيانا بــ التركيب ، وفي اللغة الجدلية الفلسفية يسمى نفي النفي • فنحن ننطلق من إثبات صفة أو حكم لشيء، وأول ما نثبته للأشياء عند كلامنا عنها هو الوجود ونقيضه العدم ، وهو نفي الوجود • والناتج من دخول الوجود والعدم في علاقات جدلية، هو نفي النفي : نفي نفي الوجود (أو نفي العدم)• فإذا أثبتنا الوجود بإطلاق (ليس وجود هذا الشيء أو ذاك بل الوجود كمعطى مطلق) ونفيناه، ثم نفينا هذا النفي، فإن الناتج يكون شيئا آخر نسميه الصيرورة• ولهذا نقول إن ما هو موجود ليس الوجود وحده، ولا نقيضه العدم وحده، بل التحول المستمر من وجود إلى عدم ومن عدم إلى وجود وهذا التحول المستمر هو ما نسميه بـ الصيرورة • ومن جاز القول إن العالم كله ظواهر تحكمها الصيرورة، فهو كالنهر لا تستطيع أن تستحم فيه مرتين فماؤه ينساب باستمرار (كما قال فيلسوف يوناني)•
هذا التغير المستمر الذي يطبع العالم لا يتم، من وجهة نظر المنطق الجدلي، بصورة تكرارية: فالتحول من النفي إلى نفي النفي لا يعيدنا إلى الإثبات السابق كما وكيفا، بل يعطينا إثباتا جديدا متقدما على الأول، وهذا يعطينا نفيا متقدما عن سابقه يتلوه نفي نفي جديد، وبهذه الطريقة يحصل التقدم أعني الانتقال من وضع أدنى إلى وضع أعلى•••
ذلك هو مفهوم النقيض ونفي النفي في المنطق الجدلي كما شيده الفيلسوف الألماني هيجل وساح به في عالم الفكر، ثم تبناه أحد تلاميذه كارل ماركس وطبقه على عالم التاريخ والمجتمع، ليستنتج: أن التاريخ والمجتمعات في تغير دائم، وأن هذا التغير هو عبارة عن صراع الطبقات، وأن هذا الصراع سينتهي بانتصار النقيض الذي أفرزته الطبقة البرجوازية السائدة في عصره، وهو الطبقة العاملة، الشيء الذي سيؤدي إلى زوال الطبقات واختفاء الدولة التي ارتبط وجودها بوجود الطبقات••• وبذلك يبدأ تاريخ آخر خال من الصراع، تاريخ تسود فيه العدالة والمساواة والتشارك في الثروات، وذلك عنده هو معنى الشيوعية•
كان هذا النمط من التحليل مثيرا، وفي الوقت نفسه يشيع الأمل والحماس والثقة بالمستقبل في نفوس العمال الكادحين وجميع المستضعفين• ومع ذلك فإنه لم يخل من ثغرات لكونه اعتمد أساسا على معطيات تاريخ أوروبا وبالخصوص منه القرن التاسع عشر• ومع أن معطيات من التاريخ كانت تؤيد بصورة عامة اتجاه هذا التحليل الماركسي فإن نشاط البحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية قد أظهر في الوقت نفسه وجود مجتمعات خالية أو تكاد من الطبقات، وهي التي أطلق عليها منذ ذلك الوقت اسم المجتمعات البدائية (مقارنة بالمجتمع الأوروبي آنذاك)• لقد تبين منذ ذلك الوقت أن هذه الثلاثية السحرية الهيجلية (الإثبات والنفي ونفي النفي) لا تنطبق على هذه المجتمعات التي بقي النفي فيها لا يرقى إلى نفي النفي، ولذلك بقيت كما هي منذ غابر الأزمنة إلى اليوم، تجتر واقعها الذي لم يرق الصراع فيه عن مرتبة الصراع القبلي الذي يدور في حلقة مغلقة محورها: الثأر، والثأر المضاد•••
ومع أن مفهوم الشعوب البدائية يحيل أصلا إلى الأهالي في استراليا (الأبوريجان) وقبائل الهنود الحمر والإسكيمو في أميركا•••إلخ، فإن ظاهرة اجترار الصراع الذي لا يتم فيه تجاوز نفي النفي لم تكن، ولا هي الآن، مقصورة على تلك الشعوب • هناك أماكن أخرى، لم تكن تدخل في اعتبار علماء الاجتماع الأوروبيين، بقيت هي الأخرى سجينة الإثبات والنفي (بدون نفي النفي )، منها القبائل التي كان موطنها ولا يزال في قلب جزيرة العرب• لقد ساهمت هذه القبائل بدون شك في