الانفجار السكاني والإفراط الاستهلاكي
لسنوات طويلة كان حجم وعدد أفراد الجنس البشري، يشكل محوراً أساسياً في مناقشات ودراسات قضية تأثير الإنسانية على الجوانب البيئية المختلفة لكوكب الأرض. وإن كانت أهمية هذا المحور قد شهدت تراجعاً في السنوات الماضية لسببين رئيسيين، الأول هو تزايد الإدراك بقدرة الكوكب على توفير مقومات الحياة لعدد أكبر من الحد الأقصى الذي كانت قد تنبأت به التوقعات السابقة، والثاني هو انتشار اعتقاد بين الدول النامية بأن التركيز على جانب الكم العددي للسكان، كان الهدف منه تحويل الانتباه عن جانب فرط الاستهلاك من قبل أفراد وشعوب الدول الصناعية والغنية.
ويمكن إدراك مدى حجم التزايد في عدد أفراد الجنس البشري من حقيقة أن تعداد سكان العالم في بدايات القرن التاسع عشر وصل للمرة الأولى إلى مليار إنسان، ليقفز مع بداية القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد في آخر أيام شهر أكتوبر الماضي إلى سبعة مليارات، مع تواتر التوقعات بأن يبلغ 9,3 مليار بحلول عام 2050، وإلى 10 مليارات بحلول عام 2100. وهو ما يعني أن عدد البشر احتاج إلى ثمانية عشر قرناً، ليزداد من 100 مليون منذ بزوغ فجر الإمبراطورية الرومانية إلى مليار شخص مع بداية القرن التاسع عشر، ولكن في غضون القرنين الأخيرين فقط تضاعف عدد البشر سبع مرات، ليصل إلى سبعة مليارات، وبزيادة مقدارها ستة مليارات في مئتي عام فقط. وهذه الزيادة الرهيبة، والحديثة إلى حد كبير، حيث وقع الجزء الأكبر منها خلال الخمسين عاماً الماضية بالتحديد، أثارت القلق لدى كثيرين من أن كوكب الأرض لن يصبح قادراً على توفير مكونات الحياة الأساسية لهذا العدد الهائل، والمتوقع له أن يستمر في التزايد باطراد.
وهذا ما عبر عنه "ستيف جونز" رئيس قسم علوم الحياة بجامعة "يونيفرستي كولدج لندن" بقوله "إن عدد البشر حالياً يزيد بعشرة آلاف ضعف عما هو مفترض أن يكون، طبقاً للقوانين الطبيعية التي تحكم بقية الكائنات الحية. ويعود السبب بشكل رئيسي خلف هذه الظاهرة الفريدة إلى الثورة الزراعية، فبدون الزراعة، ولو كنا لا زلنا نعيش حياة الصيد والجمع، فربما لن يزيد عدد البشر حينها عن نصف مليون فقط". ويمكن أيضاً أن نرد جزءاً كبيراً من هذه الزيادة إلى الاختراقات الطبية، وبالتحديد في مجال مكافحة الأمراض المعدية والأوبئة العالمية، التي كانت عبر التاريخ تحصد حياة الملايين وتكبح الزيادة السكانية الرهيبة.
والجانب الآخر للضغط السكاني على المصادر البيئية الطبيعية يتضح من حجم فرط الاستهلاك لبعض الدول والشعوب، على حساب دول وشعوب أخرى. فعلى سبيل المثال، يبلغ حجم استهلاك الولايات المتحدة من المصادر البيئية الطبيعية، ضعف ما تنتجه من نفس هذه المصادر. وهذا الفارق يتم تعويضه، من خلال استيراد بضائع ومنتجات من دول أخرى، تم إنتاجها بالاعتماد على المصادر الطبيعية المحلية في تلك الدول. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة، ومثلها العديد من الدول، تمثل ثقباً أسود، يسحب ويمتص ويشفط، المصادر الطبيعية للدول الأخرى. ويمكن إدراك هذا الاختلال، وخصوصاً الجانب الكمي منه، من خلال حقيقة أن الأميركيين الذين يمتلكون 30 في المئة فقط من السيارات في العالم، ينتجون 50 في المئة تقريباً من حجم غاز ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من جميع السيارات في العالم. ويعود السبب في ذلك، إلى امتلاك الأميركيين لعدد ضخم من السيارات، وقيادة تلك السيارات لمسافات أطول، واعتمادهم على سيارات ذات محركات ضخمة قليلة الكفاءة، تستهلك كميات ضخمة من البنزين وتنتج كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون. ويمتد أيضاً هذا الاختلال في الاستهلاك إلى أكثر المصادر الطبيعية انتشاراً، وهو الماء، حيث يستهلك الفرد الأميركي في المتوسط 400 ليتر من الماء يومياً، مقارنة بمتوسط عشرة ليترات فقط يستهلكها الفرد في الدول النامية لأغراض الشرب، والطبخ، والاستحمام.
ويمتد هذا الإفراط في الاستهلاك إلى جميع الدول الغنية بدون استثناء تقريباً، وبين جميع الطبقات الاجتماعية، وفي جميع الفئات العمرية، بما في ذلك الأطفال. حيث يستهلك مثلًا الطفل في الدول الغنية من الماء ما بين 30 إلى 50 ضعف ما يستهلكه الطفل في الدول النامية، وينتج أيضاً من غاز ثاني أكسيد الكربون -مؤشر على حجم الاستهلاك من الطاقة- خمسين ضعف ما ينتجه طفل العالم الثالث.
وأمام هذه الحقائق، سواء على صعيد الانفجار البشري السكاني، أو الإفراط الاستهلاكي، فليس من المستغرب تزايد المخاوف بين العلماء والمتخصصين بأن الإنسانية قد تخطت الحدود الآمنة للاستدامة، ولفقدان التنوع الحيوي، والتغير المناخي، مما قد يشكل خطراً داهماً على إمكانية استمرارية وبقاء الإنسان على كوكب الأرض. وهذه المخاطر من الممكن درؤها إلى حد كبير، من خلال تنظيم الزيادة السكانية، وتغيير السلوكيات الشخصية الاستهلاكية، والقضاء على الفاقد الغذائي، وخفض استخدام مصادر الوقود الأحفوري، وتبديل طبيعة الاقتصادات الدولية بوجه عام، وخصوصاً في الدول الغربية الغنية، لتتحول إلى اقتصادات خدمية، بدلًا من اقتصادات صناعية، تعتمد بشكل أساسي على استهلاك المصادر البيئية الطبيعية في الإنتاج، وهو ما يمكن أن يحافظ على صحة وسلامة الكوكب، وعلى توازن واستمرار بيئته، دون أن يخل بمستوى المعيشة والرفاهية للأفراد والشعوب.