حوار بلا أوهام
انعقدت طاولة الحوار في لبنان منذ أيام. وللأسف، كان انعقادها حدثاً تحقق بعد اتصالات ومشاورات داخلية وخارجية مكثفة. أقول "وللأسف" لأن الحوار هو الأمر الطبيعي بين الناس عموماً وفي لبنان خصوصاً. لبنان ذو الخصوصية المميزة له ولتاريخه وواقعه في المنطقة. لبنان التجربة المفتوحة والمدرسة والجامعة العالمية المفتوحة التي يتعلم فيها ومن مخزونها السفراء المعتمدون فيها كما يقولون هم ومن الطبيعي أن يتعلم قبلهم اللبنانيون. وأبرز ما يجب تعلّمه هو أن اللبنانيين محكومون بالحوار. لا بديل عن الحوار. ولا أحد يستطيع إخضاع أو إلغاء أو كسر أحد آخر في البلد. ومن الأفضل أن يأتي اللبنانيون إلى الحوار وعقد التفاهم بين بعضهم بإرادة منهم قبل أن تتفاقم الأوضاع في الداخل فيأتون إلى الطاولة بإرادة وقرار غيرهم كما حصل تكراراً وبعد وقوع الواقعة وحصول الخسائر.
والحوار يجب أن يكون مفتوحاً مستمراً قائماً حول كل المسائل. والتسوية منشودة دائماً. لكن المشكلة هي أن ثمة أوهاماً تحكم تصرفات كثيرين من متعاطي السياسة. لقد كثر عدد متعاطي السياسة وقلّ كثيراً عدد السياسيين. ارتفع عدد العاملين في الساحة السياسية وانخفض عدد المحترفين السياسيين. عدد الهواة والمراهقين في السياسة اللبنانية أكبر بكثير من عدد المتمرسين والمحترفين لاسيما على مستوى القيادة والقرار. لذلك نعيش حالة من الفوضى السياسية وعدم التوازن السياسي.
من الأوهام؛ وهم القوة وقوة الوهم، وهم القوة بمعنى الشعور بأنك إذا كنت تملك قوةً ما، عددية أو عسكرية أو مالية، كل هذه القوى، أو بعضها، وبالتالي قوة سياسية، فإنك قادر على فرض إرادتك وقراراتك وتوجهاتك دون شراكة مع الآخر، اللبناني المكوّن أيضاً لبلدك وساحتك. وقوة الوهم هي في أنك لا تعود ترى الآخر أحياناً أو لنقل لا تعود ترى خيارات أخرى لابد من التعامل معها غير خياراتك.
ومن الأوهام أيضاً وهم السلطة. أي، وهم القناعة بأنك إذا كنت في السلطة فإنك قادر على استخدام مؤسساتها لمصلحتك وفرض معايير مختلفة وتمرير سياساتك على أساسها وتعميم نظام قيم يقوم على الانتقام والثأر والتشفي!
وحالة الورم هذه تصل إلى توصيف الوهم الأبرز فيها، وهو وهم الشعور أو الادعاء بأنك لا تمثل في لعبتك ومواقفك حالة لبنانية بل أنك تمثل حالة ذات امتداد إقليمي ودولي لا تتوقف عند حدود ولا تتأثر بمعادلات، وأن لا أحد يقوى عليك. وإذا انتقدك أحد من أبناء بلدك، فأنت تظهر الوجه الثاني لهذا الوهم الذي يعبر عنه بالادعاء المصحوب بمناحات منظمة تقول بأن ثمة حرباً كونية ضدك لمنعك مثلاً من تنفيذ طريق في لبنان!
ومن الأوهام أيضاً، وهم الاندفاع، أي أنك تندفع نحو هدف معين أو في مسار أو اتجاه معين ولا تعود تقبل أن تتوقف، أو تعرف كيف تتوقف ومتى تتوقف. ثم نرى أن اندفاعاتك كانت غير مدروسة وغير محسوبة ولا تحصد إلا الخسارة التي تفرضها أيضاً على كل لبنان واللبنانيين.
أما وهم المال ومال الوهم فهما خطران كبيران. لقد كان للمال ولا يزال تأثير في الحياة السياسية اللبنانية. لكن وصلنا إلى مرحلة بات فيه المال العنصر الحاسم نسبياً، فكيف إذا وجد بين أيدي متعاطي السياسة المبنية على أي نوع من أنواع الأوهام المذكورة. تمتلك مالاً، فتأتي لتمّول هنا وهناك، وانطلاقاً من ضعفك في السياسة وفي المعرفة والخبرة السياسية تستغل فقر الناس وألمهم وحاجاتهم. تبدأ حالات بالتكوّن على الأرض. تفرض نفسها لأن لديها قاعدة وأساساً ومنهجاً ورؤية في السياسة. فتصبح أنت أسير مواقفك. إذا استمررت في التمويل ستصبح هذه الحالات أقوى منك وتسبقك، وإذا توقفت ترتد عليك. لقد وقعت دول في هذه العملية ولم يتعلم منها اللبنانيون بعد، وهذا ما شاهدناه في طرابلس ومناطق كثيرة في لبنان بعد أحداث الشمال الأخيرة.
لقد ثبت للجميع مجدداً قبل انعقاد طاولة الحوار وبعدها، وقبل الأحداث الدموية الأخيرة وبعدها، ومع تداعيات الوضع في سوريا علينا والتوترات الحاصلة في أكثر من منطقة. إن كل الأوهام التي أشرنا إليها ستذهب بالبلد إلى وضع خطير يغرق فيه الجميع ولن يكون أحد بمنأى عن نتائجه السلبية. وبالتالي ينبغي الخروج من دوائر الأوهام والاستناد إلى الحقائق والوقائع واستخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة.
أبرز الحقائق حقيقة الشراكة. وحق الجميع في إنضاجها وترجمتها إلى صيغ ومعادلات ومنهجيات وواجب الجميع في حمايتها بعيداً عن المغامرات والمكابرات والغرور والادعاء وكل أشكال الاستقواء على بعضنا.
إن مصير دول المنطقة كلها على المحك. ولم يعد الأمر محصوراً بساحة معينة فقط. دخلنا في بازار دولي كبير. نرى فيه الدول تتسابق لحماية مصالحها وضمان نفوذها. ونحن لا نهدأ في تحليل الواقع والتأكيد الدائم أن لعبة الأمم هي التي تحكم مسار الأحداث على أرضنا، ونسهب في الحديث عن "الثورات" والثروات، وتوزيع الحصص وتقاسم المصالح وأجندات تلك الأمم. كما نسهب في الحديث في هذا السياق عن خطر انزلاق لبنان نحو حرب أهلية. ونذّكر ببدايات حرب 1975 أو بالاستعدادات لأجواء مشابهة لأجواء عام 1982 الذي شهد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من نتائج كارثية على البلد. ونستعيد الذكريات والمحطات المؤلمة ونغرق في التحذيرات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ماذا نحن فاعلون ؟ نعم، ماذا يفعل كل واحد منا لاسيما الذين هم في مركز القرار؟ هل نكتفي بتكرار هذه المسائل والمناحات المرافقة لها؟ والأخطر؛ هل نكتفي بالاتفاق على تشخيص حالة معينة في هذا الإطار -والاتفاق إنجاز- لكن لا نصل إلى الاتفاق على تشخيص الحل، لأن غالبية المعنيين أسيرة تلك الأوهام البشعة؟
مشكور رئيس الجمهورية اللبنانية على دعوته للحوار وعلى تضمينه نص الدعوة كل هواجس اللبنانيين حول السلاح في لبنان. وواجب القوى السياسية أن تشارك في الحوار وأن تقول رأيها بحرية وحق كل طرف على الآخر أن يطالبه بالتفاعل معه والنقاش الهادئ بعيداً عن التخوين والاتهام والتشكيك وذهنية التآمر أو عقل الأوهام ومركبات النقص والتحدي... وإن كان الحوار لن يؤدي في جلسة أو أكثر إلى حلول نهائية لكل مشاكلنا، في ظل ما فعلناه بأنفسنا وما فعله الآخرون بنا من خلالنا وبأيدينا وأحياناً ببنات أفكارنا.