طفل من أب واحد وامرأتين!
قليلة هي التطورات الطبية التي أدت إلى معضلات أخلاقية ودينة وقانونية بحجم وتعقيد المعضلات التي ترافقت مع مجال الإخصاب الخارجي أو التلقيح الخارجي، الذي يعرف أحياناً بين العامة بمجال أطفال الأنابيب. وهذه المعضلات شملت حمل النساء بعد سن اليأس، واستئجار الأرحام، وحمل الشواذ جنسياً، وقضية التخلص من الأجنة الفائضة، وتجميد الأجنة واستخدامها بعد وفاة أحد الزوجين، والحمل في توائم قد يصل عددهم أحياناً إلى الثمانية، والخلط بين الأجنة في المعامل، والفحص الوراثي لاختيار أجنة ذوي صفات وراثية مرغوبة أو ما يعرف بأطفال "الكتالوجات"، وغيرها كثير من المعضلات الأخلاقية والدينية بالغة التعقيد.
ومؤخراً خرج العلماء بفكرة جديدة بهدف تجنب انتقال بعض أنواع الأمراض الوراثية من الآباء إلى الأبناء، يتوقع أن تضاف تبعاتها إلى قائمة المعضلات الأخلاقية والدينية المرتبطة بمجال الإخصاب الخارجي. ولفهم هذه الفكرة، يجب أن نتعرف أولاً على جزء خاص من مكونات الخلية، يعرف بـ"الميتوكوندريا" (Mitochondria). وهذا الجزء الصغير جداً الموجود داخل جميع الخلايا البشرية، ما عدا كرات الدم الحمراء، مسؤول عن إنتاج الطاقة داخل الخلية، ولذا يحلو للبعض أن يطلق عليه أحياناً لقب مولدات أو محطات الطاقة الخلوية. ويتراوح عدد "الميتوكوندريا" داخل الخلية الواحدة من واحدة فقط إلى المئات، والآلاف أحياناً. وتتميز "الميتوكوندريا" بصفة خاصة جداً هي احتواؤها على المادة الوراثية الخاصة بها، المكونة من الحمض النووي الأميني (DNA)، والمختلفة عن المادة الوراثية الموجودة في نواة الخلية، أي أن الخلايا البشرية تحتوي على نوعين من المادة الوراثية، واحدة موجودة في نواة الخلية، والأخرى موجودة في "الميتوكوندريا". وكما تصاب المادة الوراثية الموجودة في نواة الخلية باختلالات واضطرابات تؤدي إلى أمراض وراثية، تصاب أيضاً المادة الوراثية الموجودة في "الميتوكوندريا" باختلالات تؤدي إلى طائفة خاصة من الأمراض الوراثية، تعرف بالأمراض الوراثية المرتبطة بـ"الميتوكوندريا".
وتتميز الصفات الوراثية المرتبطة بـ"الميتوكوندريا"، سواء كانت طبيعية أو مرَضية، بكونها تنتقل عن طريق الأم فقط، من خلال البويضة، دون أية مساهمة للأب. بمعنى أن جميع أفراد الجنس البشري يحملون نوعيتين من المادة الوراثية، الأولى الموجودة داخل نواة الخلية، التي هي عبارة عن مشاركة وتلاحم للمادة الوراثية لكل من الأب والأم، والثانية هي الموجودة داخل "الميتوكوندريا"، التي انتقلت وحصلنا عليها من خلال الأم فقط. وبناء على هذه الخاصية الفريدة، ولتجنب الأمراض الوراثية المرتبطة بـ"الميتوكوندريا"، وبالاعتماد على تقنيات الإخصاب الخارجي، فكر العلماء في الحالات التي تكون فيها المادة الوراثية لـ"الميتوكوندريا" للأم معيبة، في استخدام حيوان منوي من الأب، ونواة خلية من الأم تحتوي على المادة الوراثية الأساسية، بالإضافة إلى بويضة من امرأة أخرى تحتوي على "ميتوكوندريا" ذات مادة وراثية سليمة.
وهذا يعني أن الطفل الناتج سيحتوي على المادة الوراثية لثلاثة أشخاص، الأب، والأم، والمرأة الثانية، على عكس الوضع الطبيعي الذي يحمل فيه المولود المادة الوراثية لشخصين فقط، الأب والأم. ومثل هذا الوضع يذكرنا بالرواية المشهورة للكاتبة الإنجيلزية "ماري شيلي" بعنوان "فرانكنشتاين"، التي نشرت عام 1818. وتستعرض تلك الرواية قصة وحش تم تكوينه من خلال تجميع أعضاء بشرية من جثث أشخاص مختلفين، لينقلب بعد ذلك على العالم الذي خلقه. وبعيداً عن هذه الدراما، يخشى البعض أن فكرة تغيير المادة الوراثية الناتجة عن التقاء الحيوان المنوي والبويضة لزوجين، من خلال دمجهما مع المادة الوراثية لشخص ثالث، ستكون بداية الطريق نحو تعديل المادة الوراثية للأجنة، ضمن ما يعرف بأطفال "الكتالوجات". صحيح أن فكرة العلماء بدمج المادة الوراثية للمرأة الثانية في الحالة المطروحة حالياً، هي لغرض علاج أمراض وراثية خطيرة، تصيب الأطفال بالعمى وضعف العضلات وفشل القلب وغيره من الأعضاء، إلا أنه لا يوجد ضمان أن نفس الفكرة لن تستخدم لاختيار لون الشعر أو العينين، أو طول القامة وقوة العضلات.
ومثل هذه المخاوف يقلل آخرون من حجمها، بناء على أن الطفل الناتج ستحتوي المادة الوراثية الخاصة به على 0,1 بالمئة فقط من المادة الوراثية للمرأة الثانية التي تبرعت ببويضتها، كي تكون وعاء يتم داخله التقاء والتحام المادة الوراثية للأب والأم. ويعتبر هؤلاء أن هذه النسبة البسيطة جداً هي ثمن زهيد سيدفع مقابل تجنيب بعض العائلات وأطفالها عواقب أمراض وراثية خطيرة، تضع عبئاً هائلاً عليهم وعلى مجتمعاتهم، وعلى نظم الرعاية الصحية التي ستضطلع بعلاجهم ورعايتهم مدى حياتهم. وهذه الاعتبارات النفسية، والاجتماعية، والمالية، حدت بداية الأسبوع الحالي بمجلس "نافيلد" للأخلاق الطبية في بريطانيا (Nuffield Council on Bioethics) بالتقرير أن مثل هذا الإجراء يطابق المعايير الأخلاقية المتبعة. وإن كانت المخاوف من أن الدفع في هذا الاتجاه من قبل الأطباء والعلماء، قد يكون شبيهاً بالتراجيديا الأخرى المتمثلة في قصة صندوق العجائب أو "الباندورا بوكس"، التي جلبت -بسبب فضول بطلة القصة- على الجنس البشري مصائب لا تحصى.