ليس هناك أدنى شك في أن الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات برئاسة المستشار أحمد رفعت يعد حكماً تاريخياً ليس على مستوى مصر فقط، ولكن على مستوى العالم العربي كله. فلأول مرة في التاريخ العربي يحاكم رئيس جمهورية أمام محكمة عادية وليس محكمة ثورية، في ظل مبدأ قانوني راسخ هو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وفي نفس الوقت بالتطبيق الدقيق لضمانات المتهمين الذين قدموا للمحاكمة الجنائية المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا اتسع صدر المحكمة بعد سماع مرافعة ممثل النيابة العامة ضد المتهمين طالباً أقصى العقوبة لكل منهم، إلى الاستماع لدفاع المتهمين والمدعين بالحق المدني. صدر الحكم الذي انتظرته الملايين في كل أنحاء مصر، والذي قضى بالسجن المؤبد لكل من الرئيس السابق مبارك والعادلي وزير الداخلية، وبراءة مساعدي وزير الداخلية نظراً للافتقار إلى الدلائل التي تثبت مشاركتهم في جريمة قتل المتظاهرين، وانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم بالنسبة لكل من جمال مبارك وعلاء مبارك. وفور صدور الحكم احتشدت ميادين مصر جميعاً بالجماهير وفي مقدمتها ميدان التحرير الذي هو الرمز الأبرز لثورة 25 يناير، والذي استطاعت فيه الجماهير الثائرة أن تسقط النظام وأن تجبر الرئيس السابق على التنحي. اشتعلت فورة الغضب على الحكم واعتبره البعض حكماً سياسياً لأنه أسبغ حكم البراءة على نظام الحكم السابق الفاسد، في الوقت الذي قنع فيه بعقوبة السجن المشدد على رأس النظام ووزير داخليته. ونحتاج لكي نقيم ردود الفعل الغاضبة سواء من قبل النخب السياسية المختلفة أو من قبل الجماهير الحاشدة، أن نؤكد على مجموعة من المبادئ المستقرة التي ينبغي على الجميع نخبة وجماهير احترامها. المبدأ الأول هو أن الأحكام القضائية التي تصدر من محاكم تستند إلى شرعية دستورية وقانونية هي عنوان الحقيقة. والمبدأ الثاني أنه لا يجوز الاحتجاج على الأحكام القضائية التي قد لا يرضى البعض عنها لأسباب متعددة، إلا باتباع الطرق التي نص عليها القانون وهي الطعن على الحكم أمام محكمة النقض، في المهلة التي حددها القانون، وبتقديم أسباب الطعن الشكلية والموضوعية. والمبدأ الثاني أنه لابد للكافة بعد صدور حكم محكمة النقض من احترام الحكم أياً كان، سواء بتأييد حكم محكمة الجنايات، أو بتحويل القضية إلى دائرة أخرى لإعادة المحاكمة من جديد. ومن الواضح أن هذه المبادئ المستقرة وعلى رأسها أيضاً عدم جواز التعليق على أحكام القضاء أهدرتها النخب السياسية والجماهير معاً. وقد نستطيع أن نفهم سلوك الجماهير الغاضبة ممن أصدروا الحكم من قبل على الرئيس السابق بالإعدام، نظراً لأن التزامهم بالمبادئ القانونية المستقرة انهار بحكم التغيرات الكبرى التي لحقت بالمجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير. وينبغي أن نتذكر في هذا المجال ما رصدناه من قبل لملامح المجتمع المصري بعد الثورة حيث ظهرت أربعة ملامح لهذا المجتمع، لو تأملناها بعمق لفهمنا منطق المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي انطلقت إلى الشوارع والميادين، احتجاجاً على الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات في الثاني من شهر يونيو الجاري. أول ملمح هو انزواء دور المثقف التقليدي وصعود دور الناشط السياسي. وقصدنا بذلك أن هذا المثقف التقليدي قد تضاءل دوره لحساب الناشط السياسي القادر على تحريك الشارع وتنظيم المظاهرات التي يشترك فيها الألوف. وقد تابعنا عقب صدور حكم المحكمة الجنائية على رؤوس النظام السابق وفي مقدمتهم مبارك والعادلي، كيف انطلق النشطاء السياسيون وفي مقدمتهم مرشحو الرئاسة الذين خسروا في الانتخابات، للاحتجاج على الأحكام بل إن قادة "الإخوان المسلمين" الذين تحفظوا في البداية على النزول لميدان التحرير استغلوا فرصة صدور الحكم للدعاية الانتخابية لمرشحهم محمد مرسي. وهكذا يمكن القول إن الدور "التظاهري" الذي يلعبه الآن الناشطون السياسيون يمكن أن يكون خطراً على قيم الديمقراطية في مصر، وعلى رأسها احترام مبدأ سيادة القانون. وذلك لأن القاضي الجنائي -أياً كان شخصه- يحكم من واقع الأوراق، وليس على هوى الشارع الذي تطالب جماهيره بإصدار عقوبة الإعدام! ولو ترك القضاء لأهواء الشارع وبناء على تحريض منظم من النخب السياسية غير المسؤولة، لسقطت الدولة ذاتها إذا ما سقط مبدأ استقلال القضاء. ومن أخطر ما حدث عقب النطق بالحكم صعود هتافات بعض المحامين وأسر الشهداء "الشعب يريد تطهير القضاء". وهذه دعوة بالغة الخطورة، لأن معناها بكل بساطة أنه إذا صدر الحكم على هوى الجماهير أشادت بالقضاء، أما إذا صدر ضد رغبات الناس فينتقد القضاء وتتم المطالبة بتطهيره! وهذه الهتافات العدائية ضد القضاء فيها عدوان ظالم على مؤسسة القضاء المصري الشامخة، التي لها تراث مجيد في الموضوعية والحيدة والانحياز لصالح العدل المطلق. والملمح الثاني من ملامح المجتمع الثوري هو بروز ظاهرة الحشود الجماهيرية التي حلت محل الجماهير المحدودة. وهذه الحشود الجماهيرية يمكن أن ترفع شعارات غوغائية، بل ويمكن أن ترفع مطالب تؤدي إلى تخريب المسار الديمقراطي، وأبرزها إلغاء الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وتشكيل مجلس ثوري مدني يضم المرشحين الخاسرين في هذه الانتخابات! وهكذا تدخلنا هذه الحشود الجماهيرية وعلى رأسها النخب السياسية المحرضة في مجال اللامعقول، الذي يؤدي إلى إطالة المرحلة الانتقالية وعدم تسليم "العسكر" للحكم في الموعد المحدد كما تطالب به هذه الحشود ذاتها وقياداتها المصطنعة! أما الملمح الثالث فهو الصراع بين الشرعية الثورية أو "شرعية الميدان" و"شرعية البرلمان". وهنا تلعب النخب السياسية الانتهازية وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمين" لعبتها التقليدية، فهي تارة ترفع شعار "شرعية البرلمان" وتارة أخرى -وخصوصاً بعد الحكم- ترفع راية "شرعية الميدان"! إن الصراع بين "شرعية الميدان" و"شرعية البرلمان" على رغم سلبياته على المسار الديمقراطي، إلا أن الصراع الذي برز بين شرعية الميدان والشرعية القانونية ممثلة في احترام أحكام القضاء، يمثل مخاطر جسيمة على المسار الديمقراطي المصري. إن الموقف الفوضوي الذي انساقت إليه الجماهير الحاشدة بناء على التحريض السافر من النخب السياسية والفكرية والإعلامية احتجاجاً على أحكام القضاء، يمكن أن يدخل بلادنا في نفق معتم لا خروج منه! وليس هناك سوى التسليم بقيم الديمقراطية وفي مقدمتها احترام مبدأ سيادة القانون!