في عام 1947 ولد حزب "البعث" على أيادي أستاذين عائدين من باريس، هما المسيحي الأرثوذكسي ميشيل عفلق والمسلم السني صلاح الدين البيطار، إضافة إلى مدحت البيطار، وأستاذ آخر درس في باريس أيضاً هو العلوي زكي الأرزسوي. وفي كتابه الذي نعرضه هنا، "البعث السوري... تاريخ موجز"، يعرض حازم صاغية القصة مفصلة لهذا الحزب الذي طبع الحياة السياسية العربية مدة نصف قرن؛ من خلال سيرة شخصياته الأساسية وتفاعلها مع أحداث سوريا والمنطقة، منذ نشوء الفكرة البعثية، مروراً بحكم العسكر الحزبي، خصوصاً فترة الأسد الأب، وانتهاء بمرحلة الأسد الابن التي تكرر المشاهد الدموية لعهود "البعث" السابقة. ولدى ميلاد "البعث" كانت سوريا التي استقلت لتوها، غير أن المستقبل سرعان ما اصطفى الضباط الذين قفزوا في عام 1949 إلى السلطة بقيادة حسني الزعيم، ثم توالت انقلابات أخرى وثيقة الصلة بـ"الصراع على سوريا" بين الهاشميين في العراق ومصر الملكية ثم الجمهورية. ويرجّح المؤلف انحياز "البعث" إلى العراق الهاشمي، بتولي عفلق وزارة المعارف بعد انقلاب "سامي الحناوي" على "الزعيم"، والذي اعتُبر انقلاباً عراقي الهوى على النفوذ المصري. أما التطور الأهم في تاريخ "البعث" حتى عام 1962، فكان اندماجه مع "الحزب العربي الاشتراكي" الذي أسسه أكرم الحوراني، وعن اندماجهما نشأ "حزب البعث العربي الاشتراكي" الذي أصبح أكثر ميلا إلى مصر. لكن الجيل الجديد من "البعثيين" الذين نشؤوا على مقولات الوحدة العربية، وجدوا في عبدالناصر نموذجاً وتحدياً في وقت واحد، خاصة أنه أصر على شرطين لقبول الوحدة؛ إنهاء تدخل الجيش السوري في الحياة السياسية، وحل جميع الأحزاب السياسية السورية، فكان على هذه الأخيرة حل نفسها طوعاً، فيما ترك للبعثيين مكتب لـ"القيادة القومية" كان يرتاده عفلق وبعض معاونيه. وما لبث البعثيون أن أحسوا أن "حزبهم المنحل أكبر ضحايا الوحدة التي هي أقنومهم الأيديولوجي الأول". لكن الوحدة مع مصر لم تعمر طويلا، فقد انقض عليها كبار الضباط الدمشقيين الذين وثق عبدالناصر ببعضهم أكثر مما وثق بالبعثيين (أبناء الريف). وفيما كان البعثيون حائرون بين تأييد الانقلاب الذي أطاح بالوحدة وبين الانتصار للوحدة، كانت إعادة توحيد الحزب المنحل عملية بالغة الصعوبة، لاسيما وقد انقسم إلى كتل مختلفة؛ أقواها كانت "اللجنة العسكرية" التي شكلها خمسة ضباط بعثيين، ثلاثة منهم علويون، هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، أما الآخران فكانا إسماعيليين. وكما استفادت "اللجنة العسكرية" من تفتت الحزب لتعظيم شأنها داخله، فقد استفادت أيضاً من ضعف النظام الانفصالي الجديد، لتنفذ أول انقلاب عسكري بعثي في سوريا. وهكذا ولد في 8 مارس 1963 "أحد أطول العهود السلطوية في التاريخ العربي الحديث، كما سيكون واحداً من أقساها". وكان أَمين الحافظ أَول أَدوات "البعث" في صبغ سوريا الجديدة بالدم، على ما يرى صاغية. ثم يحدثُ التآمر مجدداً بين ضباطِ ذلك الانقلاب، فتؤولُ السلطةُ في انقلاب تال، في فبراير 1966، إلى جماعة صلاح جديد التي تخلصت من القيادة القومية للحزب. وخلال فترة حكم "البعث القطري"، بين 1966 و1970، تم اختزال مراكز القوى البعثية بالقوة، دون أن يخفي ذلك مساراً طائفياً متنامياً. فحتى عام 1968 كان الاهتمام الداخلي للسلطة متركزاً على استئصال القيادات العسكرية الموالية لـ"القيادة القوميّة" وعفلق، على نحو كاد يتطابق مع تصفية النفوذ الدرزي في الجيش وفي المنظمات الحزبية المدنية، ذاك أن وجوهاً بعثية درزية وغير عسكرية، كحمود الشوفي وطارق أبو الحسن، استُبعدت لدى التخلص من "أقصى اليسار" قبل انقلاب فبراير 1966. هذا قبل أَن يقود وزير الدفاع حافظ الأَسد، في 1970، "حركة تصحيحية" ويودع رفاقه في السجون. وبالأسد ابتدأ عهد جديد في سوريا، هو العهد البعثي الثالث الذي قُيّض له الاستمرار طويلاً بعد ذاك، فلا يغير الحزبَ فحسب بل يغير سوريا الحديثة كلَّها. وهنا يرى صاغية أمرين: أن الأسد صاحب أعصاب فولاذية تُعفيه من كل حساسية حيال القتل بدم بارد، وأن "الاستقرار" عبر القوة والهيبة، كان دينه وديدنه. ومما له دلالة في هذا الخصوص، يقول الكاتب، أن الأسد، وهو سليل تقاليد الحذر الفلاحي والأقلوي في آن، وكان من اكتشف أن سوريا التي حفل تاريخها بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار وبنوازع الانفصال العديدة، آن لها أن تستقر بحد السيف! وكم يستدعي اكتشاف كهذا من بعثي شب على أفكار "الوحدة" المثالية، وعلى أهمية اللغة والتاريخ، احتقار الأحزاب والأفكار عموماً؟! ولعل أهم ما في الأمر أن الأسد حكم بالقوة المحضة، ونجح في تحويل حزب "البعث" إلى واجهة شكلية، فيما تُرك للجيش وأجهزة الأمن والمخابرات التمتع بالأولوية الفعلية، وصار الحزب مجرد أداة لتوسّع وتوسيع قاعدة الحكم. فالحزب الذي يعتبر بموجب دستور 1973، "قائد المجتمع والدولة"، لا نعثر له على حضور واضح في المرحلة الانعطافية التي تعبرها سوريا حالياً. محمد ولد المنى الكتاب: البعث السوري... تاريخ موجز المؤلف: حازم صاغية الناشر: دار الساقي تاريخ النشر: 2012