مشهد قديم رآه الجميع عندما كانت محاكمات رموز النظام السابق علنية يشاهدها الجميع قبل منع بثها بذرائع غير مقنعة إذا كانت الغاية من المحاكمات التربية السياسية لأنها جزء من العمل السياسي وإذا كان للثورة أن تحقق نتائجها لأنها جزء من نتائج الثورة. هو مشهد "الوريث" ممسكاً بيديه الاثنتين بالمصحف الشريف وراء ظهره وهو يخفي الجانب الأعظم للرئيس المخلوع إلا ما ظهر من وجهه من ثنايا القضبان. يهدف إلى التأثير على النفس، فيدرأ عن نفسه صفة الاتهام. فإنه يصعب على النفس أن يظل الإنسان متهماً بينه وبين نفسه إلى الأبد. فلابد من التبرئة أو الإدانة. وقد يكون الهدف التأثير على القضاة حتى ينظروا إلى المتهمين بعين العطف والرعاية. فالمتهم في النهاية مسلم من المسلمين. وقد يكون الهدف التأثير على الجمهور عندما كانت المحاكمة مذاعة على الهواء مباشرة ينتظرها الملايين. والمتهم في لباس أبيض مثل لون لباس الإحرام. والأبيض لون البراءة والصفاء وإن كان هو "أفرول" السجن، الأزرق بعد العقوبة، والأبيض قبلها، والمصحف باليدين وراء الظهر حتى تصوره آلات التصوير ويراه الناس. يخفي والده بمنطق الإخفاء إلا ما ظهر من الوجه من خلال القضبان. والدعاء قادر على أن يحمي أكثر من اثنين من البشر وإخراجهما من الأزمات، وتفريج الكرب. يخفي الوجه ويرى الناس الظهر وحده حتى يرى الناس المصحف الشريف بين اليدين المشبكتين وراء الظهر. واليد التي تمسك به كيف يمكن اتهامها بالسرقة وتهريب الأموال والرشوة والفساد؟ فهو حارس من كل هذه الاتهامات التي تنقصها الأدلة ربما بعد إخفائها، والمتهم منها براء. والناس تؤمن بصدق أن القرآن حارس. وتستبعد نفسيّاً أن تمتد هذه اليد الممسكة بالمصحف إلى المال الحرام. فهناك عرق ينبض فيه إذا حدث ذلك مثل كبار المؤمنين. وهي من كرامات الصالحين. وقد يكون الهدف شعوريّاً أو لاشعوريّاً طلب العفو. "كل بني آدم خطاءون، وخير الخطائين التوابون". والعفو عند المقدرة. ومسك المصحف بكلتا اليدين مؤشر على طلب العفو بدلاً من رفعهما إلى السماء منفصلتين. وهو استعطاف للناس بمقدساتهم، وجعل المقدس الواسطة بين المتهم والناس. فينسى الناس المتهم. ولا يتذكرون إلا المقدس كمن يحلف بالله على شيء كي يصدقه الناس. فينسى الناس الشيء. ولا يتذكرون إلا الحلف بالله. فإذا ما طلب تخفيف العقوبة استجيب إلى طلبه، وإذا ما طلب العفو التام لم يُرفض. وربما كان الدافع هو رفع الروح المعنوية للمتهم بينه وبين نفسه فما زال في حظيرة الأمة وفي زمرة المؤمنين. والحكم على الأفعال يُرجأ إلى يوم القيامة كما قال المرجئة قديماً. والمصحف الشريف يتهادى به الناس خاصة كبار المسؤولين، ورجال الأعمال، وقادة الجيش هو الذي سيزيد من الربح أو الذي يحفظ من الشر. خاصة لو قام المهدى إليه بتقبيله ورفعه إلى الجبهة ثلاث مرات، وزيّن به المجالس، ووضعه على الرف الخلفي للعربة ليحرسها من الحوادث الخلفية. هل الدين ستار على الأفعال وغطاء على ما يخالف الضمير والأخلاق كما هو الحال في شخصية الشيخ متلوف الذي يدعي الإيمان بذقنه وسبحته وهو فاسد من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. وفي هذه الحالة من يفعل ذلك يكون منافقاً، يظهر غير ما يبطن، ويقول ما لا يفعل. وإذن فمن له مثل هذا الإيمان مع الناس فكيف له أن يسرق المال العام؟ ومن يقوم بمثل هذا التبرك بالمصحف كيف يتهم بتهريب الأموال؟ ومن له مثل هذا الوجه من الجدية والصرامة كيف يرتشي ويتلاعب بأراضي الدولة ويأخذ العمولات على الموافقة على كل المشاريع الاقتصادية؟ وكيف تجرؤ النيابة العامة على توجيه الاتهامات لمن يمسك المصحف بيديه خلف ظهره وكأنهما مقيدتان به بدلاً من القيد الحديدي في أيادي المتهمين العاديين؟ واليد الممسكة بالمصحف لا تسرق، ولا تمتد إلى المال الحرام. وليس هناك أفضل من البداهة لإقناع البسطاء الذين قاموا بالثورة وقلبوه من وريث إلى سجين. والمسروقات يمكن أن تـُعاد في نطاق المصالحة بين أي متهم والدولة. بل إن الاعتراف بالسرقة وارد في مقابل الإفراج عن المتهم. بل إن التوبة واردة على يد شيخ أو شيخ المشايخ أو أحد رؤساء الطرق الصوفية أو إمام شيخ الجامع الأزهر نفسه أمام الإعلام حتى يعود بريئاً من كل ذنب كما ولدته أمه. والله يغفر الذنوب جميعاً. بل إن ما تبقى من ماله الخاص يبني به مسجداً باسمه كصدقة جارية. بل قد يكون مستعداً لأن يقيم مؤسسة لرعاية الأيتام باسمه تكفيراً عما سلبه من أموال المحرومين وثروة البلاد. وعقوبة السرقة قطع اليد حتى ولو كان الوريث "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". فالقرآن قبل المصحف الورقي هو الأحكام الشرعية المتضمنة فيه. به أحكام خيانة الأمانة العامة، الأمانة في الأموال. وبه أحكام ضد اعتقال الناس وتعذيبهم حتى الموت. القرآن ضد الفساد والاستغلال والرشوة والعمولة وأخذ الأموال بغير حق وتهريبها إلى الخارج. القرآن ضد من له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يضم نعجة أخيه الوحيدة إليه. فالاستغلال ليست له حدود. والطمع ليست له نهاية. كان أحد مصادر القهر السياسي. بل إنه كان المسيّر الفعلي للبلاد تمهيداً لإعلانه كذلك إذا ما تنازل الأب أو مرض أو جاء أجله. إن الحضور إلى قفص الاتهام واليدان ممسكتان بالمصحف الشريف من البداية إلى النهاية، من أول الجلسة إلى آخرها تدليس على الناس، وخداع للقضاة، وتمويه على النفس. وقد يأتي متهم آخر في قفص الاتهام بسبحة بين يديه. يتمتم بشفتيه آيات من القرآن الكريم بأن يحفظه الله من كل شر. يعلن إيمانه للناس. يفعل كما يفعلون. وقد يقوم بأداء الصلاة إذا حان موعدها. فالصلاة كتاب موقوت على كل مؤمن ومؤمنة. على الوجوه علامة الجد وصلابة الإيمان. والرئيس المخلوع يدخل القفص على سرير متحرك بعد أن ينزل من الطائرة المروحية ويدخل سيارة الإسعاف. ويستعطف بالشعر وبكبر السن وبحرب أكتوبر. ويتلو الآيات المختارة بعناية من محاميه القدير. فيشيع في جو المحكمة روح التسامح والعفو. وتبرز المصالحة بين الدولة والمتهمين جاهزة، رد مئات المليارات من أموال مصر المنهوبة في مقابل الإفراج عنهم. تحل أزمة مصر الحالية. وهو أنفع لها من عقاب المتهمين اعتماداً على المثل الشعبي "اللي فات مات".