عُرف العرب قديماً بمحبتهم للغناء. وتشهد نصوص كثيرة كما بيّنا في مقال سابق، بأنهم كانوا يغنون من المهد إلى اللحد، كما يقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه الرائد "الشعر والغناء في المدينة ومكة". فالعرب "كانوا يرقصون أطفالهم بالغناء، كما كانوا يبكون موتاهم بالنواح، وهو ضرب حزين من الغناء"! بل استخدموا التأثير السحري للغناء في مجالات مختلفة، إذ "اشتهروا بحُدائهم للإبل في مسيرتهم وترحالهم، كما اشتهروا بأغانيهم في الحروب وأشعارهم الحماسية. ومن هنا لا يكون غريباً أن نسمع بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة مهاجراً استقبله أهلها من الأنصار استقبالاً حافلاً، وقد ألفت نساؤهم في أثناء ذلك ما يشبه الجوقات، إذ كن يغنين جماعات بالدف والألحان". وكان الغناء شائعاً في المدينة، وكانت نساء العرب يشتركن فيه على نحو ما صنع نساء الأنصار في استقبال النبي. ويبين الباحث المعروف أن الإسلام لم يكن يحرم الغناء، أما ما روي من أمر الرسول بقتل قينتين يوم فتح مكة، وهما قينتا "ابن خطل"، فذلك "يرجع إلى أنهما كانتا تغنيان بهجائه وهجاء الإسلام". ويستعرض الدكتور ضيف مجموعة من الوقائع والنصوص يستدل منها على أن "النبي لم يكن يحرم الغناء، ولا كان يدعو لنبذه. أما ما شاع بعد ذلك من كراهية الغناء فجاء متأخراً ومتأثراً بآراء بعض الصحابة والتابعين". ويشير الباحث إلى أن سعد بن أبي وقاص كان يتغنى وهو مُحرم. وتشير مراجع إلى اختلاف الناس في الغناء، "حيث أجازه عامة أهل الحجاز وكرهه عامة أهل العراق. وأخذ رأي أهل العراق يسود في العصور المتأخرة، خاصة عند المتشددين". ويقول الدكتور ضيف إن الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين"، عقد فصلاً طويلاً دلل فيه من وجوه كثيرة على إباحته. ويجزم الباحث بأن الغناء لم يكن محرماً في عصر النبوة والخلفاء الراشدين وإن لم يتسع مجاله في عهدي أبي بكر وعمر. ومع حلول عصر عثمان، واتساع الدولة الإسلامية، بدأت مرحلة جديدة. "فقد اكتظت المدينة بجماهير الأسرى التي أخذت تتعرب، كما اكتظت بالكنوز والأموال العظيمة. ولم تظهر نتائج ذلك في عصر عمر، وإنما في عصر عثمان، إذ هدأت الفتوح وأخذ العرب يستجمُّون منها، وحاولوا أن يهيئوا لأنفسهم شيئاً من الحضارة التي رأوها في البلاد الأجنبية، فأصبحت المعيشة الفخمة مألوفة، لا في العراق وسوريا، بل أيضاً في المدينة المنورة نفسها، إذ أخذت تتأثر بألوان الحضارة التي رآها العرب لدى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية. وبنى أشراف المدينة القصور، وأخذت هذه القصور تعرف المغنين. وهكذا أخذت المدينة، بفضل هؤلاء الموالي الأجانب، تتحول إلى مركز للغناء في العصر الأموي". وتوقفت هذه الحركة قليلاً في عصر الخليفة علي بن أبي طالب، لانشغال أهل المدينة بالخلاف بينه وبين معاوية، لكن لم تلبث الأمور أن هدأت، فأقبلت المدينة على الغناء، تسترد منه ما فاتها، منطلقة نحو آفاق جديدة. ومن المعروف أن الحجاز عُني بالغناء في العصر الأموي عناية بالغة حتى اشتهر به بين الأقاليم العربية الأخرى. ولم يكن أهل العراق كما ذكرنا يعجبون بالغناء، مع أن الحسن البصري قال: "نعم العون الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي صديقه". ولم يكن معاوية في الشام معجباً بالغناء كما يظهر، و"أول من اتخذ الغناء وآوى المغنين من بني أمية يزيد بن معاوية، فقد طلبهم من المدينة، وذهب إليه سائب خاثر، مولى عبدالله بن جعفر. أما ما يزعمه المسعودي من أن الغناء لم يَنْمُ في المدينة ومثلها مكة إلا منذ عصر يزيد بن معاوية، فغير صحيح، لأن النصوص التي تحت أيدينا تنكره بالنسبة للمدينة على الأقل. ولم تعن الشام بالغناء في أول الأمر، واستمرت العراق لا تُعْنَى به طوال هذا العصر إلا قليلاً. أما الحجاز فغرقت فيه إلى أذنيها، وكانت المدينة أسبق مدن الحجاز إلى العناية بالغناء. ثم إن مكة لم تلبث أن عنيت به وأصبحت تنافس فيه". ويخيل إلى الإنسان، يقول الدكتور ضيف، أنه لم يبق أحد في المدينة إلا وكان يعجب بالغناء، حتى ليقول صاحب الأغاني "إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ولا يدفعه عابدهم"، واستمرت المدينة مشهورة بذلك حتى العصر العباسي، إذ نرى كبير القضاة في عهد الرشيد، البغدادي يعقوب أبو يوسف الأنصاري يقول: "ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها". وكانت فئات شتى تمارس الغناء فعلاً، منها جماعة تعد غريبة الأطوار، وهي جماعة من الرجال كانت تذهب مذهب النساء فتلبس ملابسها، فكان "طويس" مثلاً، وهو أول من احترف الموسيقى والغناء في المدينة من هذه الجماعة. لكن موجة الغناء شملت الموالي الآخرين، كما شملت جماعات من العرب أنفسهم، حيث نرى أن عمر بن عبدالعزيز، وهو والٍ على المدينة، يصنع مجموعة من الأصوات. "وهكذا مع مضي الزمن أصبح الغناء في المدينة عملاً شريفاً، بحيث نجد كثيراً من العرب والموالي الممتازين يقبلون عليه. وكان دحمان صالحاً كثير الصلاة، وهو من مغنيي المدينة. أما المغنيات فكان على رأسهن الفَرِهَة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلاّمة، وبُلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء". ويلاحظ الباحث وجود نصوص كثيرة في الأغاني تثبت صلة واضحة بين الغناء العربي والغناء الأجنبي، فربما تأثر "طويس" بمغنين من الفرس. وكان "طويس" هذا من موالي بني مخزوم واسمه الحقيقي عيسى بن عبدالله. وكان طويلاً أحول، وقد اشتهر في عصر عثمان. وكان لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدف. ويقول صاحب كتاب الأغاني إن أول أغاني طويس كانت: قد براني الحبُّ حتى كدتُ من وجدي أذوب واحتذى مغنو مكة حذو مغني المدينة في التأثر بالغناء الفارسي، فابن مسجح، أقدم المغنين هناك، استمع إلى الفرس يغنون وهم يبنون المسجد الحرام في خلافة ابن الزبير، فنقل غناءهم من الفارسية إلى العربية. وكان عود "ابن سُريج"، كما يروي أبو الفرج نفسه، "على صنعة عيدان الفرس"، وكان "أول من ضرب بالعود الفارسي في مكة على الغناء العربي". وقد ذهب آخرون إلى بلاد فارس وبلاد الروم ونقلوا منها الألحان إلى اللغة العربية، مما يؤكد الصلة الفنية بين هذه الثقافات. غير أن الدكتور ضيف يحذر من المبالغة في هذه الصلة. فقد تأثر العرب لكنهم لم يذوبوا في غناء غيرهم. فهؤلاء المغنون الأجانب إنما ولدوا في بلاد العرب، ونشؤوا فيها، كما بدؤوا بالغناء العربي ثم تعلموا الغناء الأجنبي. ومصطلحات الغناء نفسها في هذا العصر كلها من الألفاظ العربية. ويقول إن التأثير الفارسي ربما كان أكبر من التأثير الرومي في غناء الحجاز. لكن حتى هذا التأثير لم يكن شاملاً. وربما كان من أوضح الأدلة على ما نزعمه، قول الباحث: "إن الحيرة، وهي أقرب إلى بلاد الفرس من المدينة ومكة، لا نجدها تأخذ شيئاً واضحاً من الغناء الفارسي! وكان من المعقول أن تكون أسرع إلى التأثر بالغناء الفارسي. ولعل في هذا كله ما يدل على أن العرب لم ينقلوا من الفرس ولا من الروم نظريتهم الغنائية، وإنما نقلوا بعض الألحان وبعض الأنغام وبعض الأدوات الموسيقية، خاصة في العصر العباسي، وقد عرض المسعودي لهذه الآلات في كتابه مروج الذهب بالتفصيل". إن تدوين التاريخ الثقافي والفني للعالم العربي والإسلامي من أعقد الأمور بلا شك، إذ انصرف معظم اهتمام المؤرخين إلى الجوانب السياسية تاركين تفاصيل الحياة اليومية وغيرها دون تدوين. ولا شك أن معرفة هذه البدايات الفنية في مكة والمدينة والمدن الأخرى مهمة جداً. إذ رغم المنع والتشدد، بل ومحاربة بعض الحكام والولاة والفقهاء للموسيقى والغناء، فقد ظهر في هذه المجتمعات من يهتم بإحياء هذه الفنون وتطويرها. ونحن في زماننا هذا ندهش مما يورده الدكتور شوقي ضيف في كتابه من تفاصيل، حيث يقول مثلاً: ومن يقرأ أخبار المغنية "جميلة" في كتاب الأغاني، يلاحظ أن الغناء تم له في بيت هذه المغنية كل ما يتصوره الإنسان من رقي، "إذ كانت تغني بمصاحبة جوقة كبيرة تضرب على العيدان والأوتار، حتى لتبلغ الجوقة أحياناً خمسين شخصاً، وكانت تضرب في أثناء غنائها. وكما عرف بيت جميلة الغناءَ المصحوب بجوقة كبيرة، عرف كذلك الغناء المصحوب بالرقص". وقد جلست هذه المطربة تغني ذات مرة، ثم قامت ورقصت وضربت بالعود وعلى عاتقها بردة يمانية، وقام ابن سريج يرقص وكذلك "معبد" و"ابن عائشة"، وغيرهما، وفي يد كل منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها، ثم دعت بثياب مصبغة، فلبسوها ثم ضربت بالعود وتمشت وتمشى القوم خلفها، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد". وتقول الموسوعة العربية الميسرة عن المغنية "جميلة"، المتوفاة عام 720، إنها "أصل من أصول الغناء العربي، عاشت في القرن الأول للهجرة، وعنها أخذ معبد بن وهب وابن عائشة وسلاّمة القس وغيرهم. وكان معبد يقول: "أصل الغناء جميلة وفرعه نحن". وكانت جميلة "حسنة الوجه والخلق، جيدة الصناعة في الألحان، ولم يدع أحد مقارنتها، فكانت حجة يحتكم إليها المغنون إذا اختلفوا".