القراءة والتأويل
أكدنا في المقال السابق على أن السبل الكفيلة بتحقيق القراءة المنتجة مرهونة بتحقيق مجموعة من الشروط التي يأتي على رأسها أن تتسم القراءة بطابع الاستمرارية، وأن تكون ذات خاصية تراكمية، وأن تفضي إلى تكوين عقلية ناقدة تصقل وعي الفرد وتعمق من قدرته على فهم وتفسير ما يقرأ.
ويقودنا الحديث عن عملية الفهم والتفسير إلى الدخول في قلب مقال اليوم، حيث نسعى من خلاله إلى توضيح طبيعة العلاقة بين القراءة والتأويل. لكن لنبدأ أولًا بتوضيح معنى الـتأويل، ثم نتحدث عن طبيعة العلاقة بين الـتأويل والقراءة. ومن دون الدخول في متاهات التعريفات النظرية المجردة، يمكن القول إن التأويل بات عِلماً من العلوم التي أصبح لها منطلقاتها النظرية وأسسها المنهجية. يطلق عليه البعض مصطلح "الهرمنيوطيقا". وأياً ما كانت التعريفات، أو المصطلحات المتنوعة التي ترتبط بهذا العلم، فإنه يرتبط بشكل أساسي بعملية الفهم والتفسير. لذا نجد أن الدكتور محمد عناني يرى في "معجم المصطلحات الأدبية الحديثة أن المعنى الدقيق للتأويل هو "فن تفسير النصوص، أي تحديد معانيها، خصوصاً من خلال مجموعة ثابتة من القواعد وفنون الصنعة، كالقواعد النحوية أو أسس الأبنية البلاغية الخاصة بكل لغة، إلى جانب وجود نظرية أدبية أو قانونية أو دينية تحكم مسار التفسير(ص 122). كما يؤكد مجدي وهبة في معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب أن التأويل يعني تفسير ما في النص من غموض، بحيث يبدو واضحاً وجلياً ذا دلالة يدركها الناس، أو إعطاء معنى معين لنص ما، أو إعطاء معنى أو دلالة لحدث أو قول لا تبدو فيه هذه الدلالة لأول وهلة. (ص 86).
ويمكن القول من خلال هذين التعريفين إن التأويل عملية ترتبط بشكل أساسي بمحاولة البحث عن الفهم والتفسير، وإزالة الغموض وعدم الوضوح الذي يبدو عليه النص للوهلة الأولى، والوصول إلى أكبر قدر من الفهم والوضوح لهذا النص. وهذا المسعى لا يمكن تحقيقه من دون البحث عن المعنى الكامن أو المعنى الضمني، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند المعنى السطحي للنص أو اللفظ، أو لأي حدث أو موقف نتعرض له في حياتنا اليومية. معنى ذلك أن عملية التأويل تفترض وجود معنى سطحي ومعنى كامن، أو معنى حرفي ومعنى مجازي. كما أن التأويل عملية يقوم بها الفرد، أو مجموعة الأفراد، لفهم أو تفسير النص، أو القول، أو الموقف، أو الفعل، أو الحدث الذي يبدو غير مفهوم بالنسبة للفرد أو للجماعة. وهذا يعني أيضاً أن عملية التأويل تكاد تكون ملازمة لكل أفعالنا، وأقوالنا، ومختلف مواقف الحياة التي نتعرض لها. وملازمة كذلك لمختلف الأنشطة الفكرية والعقلية التي نقوم بها. والتي تبدو لنا غير مفهومة، للوهلة الأولى، ونسعى بالتالي إلى فهمها أو تأويلها بغية إدراك معناها العميق الذي يتجاوز معناها السطحي.
وإذا كانت عملية التأويل ترتبط بالفهم والتفسير، وأنها عملية ملازمة لمختلف أفعالنا وأقوالنا، فإن إحدى الغايات الأساسية لها تتمثل في الوصول إلى مساحات أوسع من التواصل والتحاور بين مختلف الأطراف المشتركة في هذه العملية. بغرض الوصول إلى فهم مشترك للموقف أو القول أو الفعل أو الحدث موضع الفهم أو التأويل.
ولا شك أن عملية التأويل تتباين بتباين هذه المواقف أو الأقوال أو الأفعال أو الأحداث. كما أنها تتباين بتباين طبيعة النشاط الفكري أو العقلي الذي يمارسه الفرد، وتتباين أيضاً بتباين طبيعة النص موضع التأويل. كما تتعدد هذه التأويلات بتعدد طبيعة هذه الأنشطة، ومن الصعب أن نجد تأويلاً واحداً، بل أننا قد نجد ما أطلق عليه بعض الباحثين "صراع التأويلات" داخل النص الواحد.
لكن ماذا عن طبيعة العلاقة بين التأويل والقراءة؟ يمكن القول – بناء على كل ما سبق – أن العلاقة بين التأويل والقراءة علاقة تلازمية.
فإذا كانت الغاية الأساسية للتأويل تتمثل في البحث عن المعنى، أو الفهم والتفسير، فإن القراءة تسعى إلى تحقيق الغاية نفسها. كما أن التأويل عملية ملازمة لعملية القراءة. فهما يمضيان في مسارين متوازيين، وعليه يمكن القول بأنه لا توجد قراءة بدون تأويل، كما لا يوجد تأويل بدون قراءة، بل إن بعض الباحثين يستخدمون مفهوم القراءة وهم يعنون ضمناً عملية التأويل.
أضف إلى ذلك أن عملية القراءة، تجعل للقارئ دوراً مركزياً في إنتاج المعنى، بل إنها تجعله الوحيد القادر على فهم معنى النص أو تأويله، أي أن القارئ (أو القراء) الذي يمارس فعل القراءة، وهو الذي ينتج المعنى في استقلال تام عن مؤلف النص، لذا نجد أن بعض التيارات النقدية أعلنت عن "موت المؤلف"، أي أن النص ينتقل – بمجرد كتابته أو إبداعه - من سلطة المؤلف إلى سلطة القارئ، وينفصل عن المؤلف انفصالًا تاماً، ويصبح مستقلاً عنه. وأن القارئ هو الذي يقوم بالدور المركزي في تأويل النص أو إنتاج المعنى الكامن في هذا النص.
ومثلما تتعدد التأويلات وتتنوع، فالأمر نفسه ينطبق على عملية القراءة. فليس ثمة قراءة واحدة، فالنص الواحد قد يثمر عن قراءات (أو تأويلات) متعددة ومتنوعة، تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع طبيعة من يقومون بقراءة هذا النص بغية تفسيره أو تأويله. ومن الضروري التأكيد على طبيعة العلاقة التلازمية بين القراءة والـتأويل، فما معنى التأويل، ولماذا نتحدث عن علاقته، وينبني التأكيد على طبيعة هذه العلاقة على مجموعة من الحقائق لعل أهمها مركزية دور القارئ ، بمعنى أن القارئ هو الذي ينتج المعنى. وإذا كانت الغاية الأساسية لعمليتي القراءة والتأويل تتمثل في إنتاج المعنى، أو الفهم، فإن الغاية الأهم تتمثل في الوصول إلى مساحات أوسع من الحوار والفهم المشترك بين كل الباحثين عن المعرفة والسالكين دروبها الوعـرة.