في نهاية عام 1816 مات طوسون بن محمد علي باشا في حملة القضاء على الوهابيين جراء حمى أصابته، فعين محمد علي باشا ابنه إبراهيم قائدا للحملة، واستطاع إبراهيم أن يطاردهم حتى وصل عام 1818 إلى عاصمتهم الدرعية فاستسلمت. ويومها عقد إبراهيم باشا مؤتمرا بين علماء الأزهر و500 من علماء الوهابية. واستمرت المناظرات لمدة ثلاثة أيام بين الفريقين وإبراهيم يضبط غيظه في غاية الصبر. وفي نهاية المناقشات كان رأي الوهابيين أنهم على الدين الحق وما عداهم حطب جهنم هم لها واردون. توجه إبراهيم باشا إلى هؤلاء المتشددين فقال أريد أن أسألكم سؤالا: هل تعلمون أن الجنة عرضها السموات والأرض؟ قالوا: نشهد إن ذلك حق. قال: وفي هذه الجنة الفسيحة أليس هناك متسع ولو في ظل شجرة واحدة لغيركم؟ قالوا: لا. ليس هناك متسع لأحد من الكافرين. وهنا كان الغيظ قد قفز عنده إلى الحد الذي لا يضبط فأمر بقتلهم جميعا ودفنهم في حفرة جماعية واحدة؟
وهكذا اجتمع في ساحة الموت عقلية متشددة وحاكم ظالم لا يفسح أحد الطرفين للآخر مجال للحياة؟ فالجنة للوهابيين فقط والدنيا لإبراهيم باشا فقط فإن وجد الأول مات الثاني؟ وبعدها دمر إبراهيم الدرعية كما فعلت روما مع قرطاجنة فأصبحت مجموعة من الأطلال؟
وهذه القصة تكررت مع الملك عبد العزيز والمتشددين ففي يوم وقف أحدهم فقال: إنك تجرُ إزارك كبرا، فما كان من الملك عبد العزيز إلا أن طلب مقصاً فلما أحضر, سلمه لصاحب الورع البارد فقال: عليك بالثوب؟ فقام الرجل فشوه الثوب.
ويروي "آرمسترونج" قصة مشابهة ففي يوم رآه أحد المتشددين فلم تعجبه شواربه وقال شواربك مخالفة للسنة فالتفت الملك عبد العزيز مرة أخرى وقال لمن حوله هاتوا لي المقص وقص هذه المرة ليس ثوبه بل شواربه احتواء لأنصاف المجانين.
وفي ليلة كان عنده وفد أجنبي فحضرت صلاة العشاء فقام أحدهم فأمَّ القوم وصلى خلفه الملك عبد العزيز فما كان منه إلا أن قرأ آية "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" فمازال يكررها حتى تعجب القوم! فعرف الملك أنها رسالة سياسية في الصلاة فقام إليه بعد انتهاء الصلاة وصرخ به: أيها الخبيث مالك وللسياسة؟
ويروي (علي الوردي) عن مأزق ابن سعود: أن الإخوان كانوا من البداية غير راضين عنه "ينتقدون ابن سعود لكونه يلبس العقال بدلا من العمامة ويطيل شاربه وملابسه". وكانوا يعتقدون أن الأتيال (أسلاك التلغراف) ينقل الخبر فيها الشياطين. وأن الجغرافيا تعلم كروية الأرض وهي كفر؟ وأن تعلم اللغات الأجنبية ذريعة للوقوف على عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة. والرسم تصوير وهو محرم قطعاً.
واتبع بن سعود معهم في البداية مبدأ التساهل والتسامح على أمل أن تخف غلواؤهم مع الزمن فقال:"الإخوان يجب احتمالهم. وأما العصبية والشدة فالزمن كفيل بتخفيف حدتها" ولكن ما وجده أن الزمن لم يزدهم إلا إيغالا في القسوة والتطرف، حتى قضى عليهم بحد السيف كما فعل السلطان محمود مع الانكشارية فحصدهم بالمدفعية.
ويبدو أن البيئة لها دورها في تكوين "التشدد" فالصحراء محدودة معزولة وهي غير مدن الساحل التي تحتك بالحضارات. ومن نشأ في بيئة معزولة كان عقله مغلقا في صندوق، ومن نشأ في بيئة متفتحة تحمل المخالف.
وإيران تشيعت ليس بسبب عقلي بل "بتميز" حضاري فلم يكن أمام الفرس في وجه العرب إلا أن يأخذوا حزب المعارضة. وهناك علاقة بين الجغرافيا والدين فمصر كانت في يوم مركزا للدعوة الفاطمية وليس فيها اليوم فاطمي واحد لأن الناس لا يمكن أن يعيشوا إلا على حواف النيل أما في سوريا والعراق فهناك العديد من الجبال التي تساعد على الانعزال وهكذا نشأت طوائف يركبون رؤوس الجبال ويعتقدون بألوهية الأشخاص أو يعبدون الشيطان. وما سيمزج الناس فعلاً هو موجات الحضارة التي لا تسمح بالشرنقة. وعندها سوف يتسامح الناس بين بعضهم أكثر فيتعلمون التعددية واحترام الآخرين مهما اختلفوا دون الحاجة إلى الاختباء في كهوف "تورا بورا".