يعيش العالم أجمع منذ ربع قرن على أوهام الفكرة الوثوقية القائلة إن العولمة قدر لا مفر منه، وإنها بالضرورة هي غاية ونهاية التطور الرأسمالي. وبدلاً من أن تتحقق الدعاوى الزاعمة بأنها طريق مضمون نحو الاستقرار والازدهار لأكبر عدد ممكن من الأمم والشعوب، بدأت الآن تتكشف عن بدايات الوقوع في هوة أزمة عالمية سحيقة، ذات تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا تبقي ولا تذر. هذا ما يذهب إليه الكاتب الفرنسي جان- ميشل كاتربوين في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان: "الموت من أجل اليوان؟ كيف يمكن تفادي نشوب حرب عالمية"، الذي يستند فيه على فرضية عمل أساسية مؤداها أن العالم يعيد اليوم إنتاج تجربة مريرة سابقة، تجرعها قبل قرن من الزمن، حين تكشف حينها ما يسميه "العولمة الأولى" عن خراب الحرب العالمية في 1914. ويومها أيضاً أنعشت التجارة الدولية العابرة للبحار (الميركانتيلية) وتوسع الرأسمال الغربي والاستعمار في القارات الخمس، الآمال بأن العالم مقبل على عصر جديد من الوفرة والرفاه والازدهار، ولكن كل تلك الآمال العراض سرعان ما تحولت إلى آلام عراض بسبب اصطدام المصالح والأجندات الدولية في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وما عرفته الإنسانية خلالها من أهوال وكوارث. ولم يكن ينقص في ذلك الوقت أيضاً وجود دعاة متفائلين من كل شكل ولون، متحمسين لعولمة ذلك الزمن، ممن بشروا بقرب أفول الدول الوطنية، تمهيداً لاندماج العالم كله في بوتقة صهر كونية خلاقة تشبه في كثير من أوهامها ما يسمى في عولمتنا الراهنة بـ"القرية الكونية الواحدة"! ويومها أيضاً توالى التقدم المتسارع للابتكارات، وازدادت كثافة المبادلات التجارية والاقتصادية على صعيد عالمي، وتكرس انفتاح الأسواق المالية مدعومة ومدفوعة بتوالي الابتكارات في مجال التقنية وثورة الاتصال، وقيل وقتذاك إن نشوب أية حروب كبيرة لم يعد وارداً أبداً بحكم الاعتماد المتبادل المتزايد للدول على بعضها بعضاً من الناحية الاقتصادية، ولترابط وتشابك مصالحها من الناحيتين السياسية والاستراتيجية. ولكن كل تلك النبوءات المتفائلة ذهبت مع الريح وتبددت عند لحظة الحقيقة، وتأدّت إلى النهايات المأساوية التي نعرفها الآن جميعاً، والتي أيقظت العالم كله من أحلام يقظته على أشنع كوابيس الخراب والدمار. والشاهد في هذه المقارنة التي يجريها الكاتب "كاتربوين" بين عولمة بداية القرن العشرين وعولمة بداية القرن الحادي والعشرين هو أن هذه الأخيرة التي ظل حضورها يتنامى خلال فترة ربع القرن الماضية قد أنتجت هي أيضاً ذات الأخطاء والأعراض السلبية التي أنتجتها سابقتها، وسيكون من عدم الفطنة، بل من قبيل انعدام الخيال السياسي والحس التاريخي، توقع أن تؤدي الأخطاء والأعراض نفسها إلى نتائج مختلفة. فقد تغول منطق التجارة الحرة اليوم حتى تجاوز كل حدود الرشد والعقل، ووصل جشع رأس المال المالي حدوداً محمومةً، وبلغت سلطته وسطوته درجة من النفاذ والنفوذ حولته إلى وحش كاسر حقيقي يخشى اليوم أن يكون قد خرج بالفعل من قمقم الأزمة المالية العالمية الأخيرة. ويرى الكاتب أن هنالك الآن في عولمة الوقت الراهن تحالفاً غير منطقي ضد المنطق وضد طبيعة الأمور ومستقر العادة في الاقتصاد والتاريخ هو ذلك الذي يقوده أشرس دعاة الانفتاح العولمي التجاري وأنصار تغول الرأسمالية المالية المنفلتة الذين يريدون معاً للتجارة العالمية أن تكون لعبة مفتوحة على حلبة سديمية، دون قواعد لعبة، ودون حكم، ودون نهاية لعب معروفة. وينضاف إلى هؤلاء وأولئك أيضاً صعود الصين الاقتصادي الهائل، المخصوم طبعاً من حجم وزخم حضور الغرب الرأسمالي في الأسواق الدولية، ما يعني احتمال زيادة الاستقطاب والتنافس على خطوط صدع عالمية، تجارية أولاً، وفيما بعد سياسية واستراتيجية. والنتيجة أن الغرب أصبح يواجه اليوم قواعد لعبة، يقول الكاتب، لا تخلو من تدليس، حيث إن عليه الاستمرار في الانخراط، شاء أم أبى، في مزيد من توسع التجارة الدولية ضمن منافسة غير متناسبة، بالنظر إلى ما يسود من اعتقاد عن تعمد الصين تخفيض قيمة عملتها لضمان استمرار ميلان موازين المبادلات التجارية لصالحها ضد شركائها الغربيين، في أوروبا وأميركا. وأمام هذا الوضع الذي لا يدعو إلى التفاؤل يتساءل الكاتب: كيف نتجنب الآن ألا تؤدي، مرة أخرى، أخطاء العولمة الراهنة إلى ما أدت إليه الأخطاء ذاتها في عولمة بدايات القرن الماضي، بما يعنيه ذلك من هواجس نشوب حرب كونية، حتى لو كانت على المستوى التجاري والاقتصادي فحسب، مع ما سيترتب على ذلك من كوارث على مستوى العالم أجمع؟ هنا يرى "كاتربوين" أن أمام العالم سيناريوهين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في مجازفات العولمة الراهنة دون أي ضبط أو حد من حجم التوسع السرطاني لحرية المبادلات والتجارة الرأسمالية، أو البدء في ضبط وترشيد قواعد لعبة المبادلات الحرة، بما قد يعنيه ذلك من نزع تدريجي لعولمة الاقتصاد الدولي الحالية، وتطعيمها بجرعات معقولة ومناسبة من الحمائية، وإعادة تعريف الحدود وتكريس الطابع متعدد الأقطاب للعالم. وبين هذين السيناريوهين يرى الكاتب أن على أوروبا خاصة، إذا أرادت ألا تكون هي الضحية، أو الجائزة، في أية حرب اقتصادية دولية مقبلة، أن تعمل على إيجاد نوع من القواعد الناظمة للتجارة في علاقاتها مع عمالقة العالم. كما أن الإنسانية كلها مطالبة هي أيضاً بإعادة التفكير في وضع وضع قواعد اجتماعية ومالية وضريبية وبيئية فاعلة لضبط إيقاع العولمة الاقتصادية والمالية القائمة اليوم، وإلا فلا بديل سوى مضي مسار الأحداث إلى نهايته المحتومة: أي وقوع الكارثة باندلاع حرب كونية أخرى، لأسباب تجارية أو اقتصادية- سياسية. وهذه النهاية المأساوية التي يتعين على العالم أجمع العمل على نزع كافة أسبابها المتحشدة في الأفق اليوم. ويبقى أخيرا القول إن النظر إلى صعود الصين كمنافس وهاجس للغرب هو ما دفع الكاتب إلى استدعاء عملتها "اليوان" في عنوان كتابه، لدغدغة مشاعر قطاعات متنامية من الرأي العام الغربي مهجوسة اليوم من صعود التنين الصيني. وهذا ما يجعل الكتاب، بصفحاته الـ 279، داخلاً من الباب الواسع في خانة الكتب التهويلية الموجهة للتعبئة ضد "الخطر الأصفر" المزعوم، من منطلق المركزية التجارية -والذهنية- المزمنة المعششة في العقل والمخيال الغربي. حسن ولد المختار الكتاب: الموت من أجل "اليوان"؟ المؤلف: جان- ميشل كاتربوين الناشر: بورين تاريخ النشر: 2011