اُحتفل قبل أيام بالذكرى الخمسين بعد المائة لميلاد عظيم الهند رابندرانات طاغور (ت 1941)، ولحاجة شديدة، بِما آلت إليه أحوال بغداد من سوء في الثَّقافة على المستوى الرسمي، أن يمنع مهرجان موسيقى ببابل مثلاً، وجدتُ مِن الضَّرورة، ولو عبر مقال، استعادة ذكرى زيارته بغداد التاسعة والسَّبعين. بغداد التي يحل الآن ضيوف دائمون على شاشتها الرسمية وهم يقدمون الشعوذة على طبق الدين؛ ودعونا من عناوين مغالطة من مثل مؤسسة الإعلام المستقلة. استمع لبرنامج شاعر سوري، الدائم ديمومة الشيخ الإخواني في القناة التي تأسست من أجل أمثاله الإخوان، يظهر متمنطقاً مع حركات استعراضية، وحاشياً عقول العراقيين بمادة بائسة غارسة الجهل على أنه ثقافة وعلم آل البيت، مستخدماً تلك الأسماء بضاعةً. أتذكر به مشايخ الدعاية المذهبية والدينية عبر الشاشات الهابطة. كلُّ امتياز هذا الرجل أنه تفريق شهادات الدكتوراه، وفي كل آن يعقد مجلساً لتوزيع الدكتوراه الفخرية والأصلية من جامعته "الإبداع"، ويعلم الله كم من حاملٍ لها في أروقة البرلمان والدولة! والسعر خمسة آلاف دولار. ما كنت أُصدق لولا أن ورقةً بخطه قدمها لي أحد الراغبين بهذه الدكتوراه، تقول له بخط الماجك: تستحق الدكتوراه على ما كتبته، وأن أحد النُّزهاء، من أهل النَّجف، قال لي: رفضتُ عرضه دكتوراه بخمسة آلاف دولار. قبل تسعة وسبعين عاماً كان ضيوف بغداد من مشاهير الشرق، اثنان كانا يخطوان نحو الشهرة: أم كلثوم (ت 1975)، بعدها عُرفت بكوكب الشَّرق، ومحمد عبدالوهاب (ت 1991)، أما الثَّالث فهو شاعر الهند وفيلسوفها، وليس أشهر من حيازة جائزة نوبل، شرفته وتشرفت به العام 1913، وليس أشهر من وسام الفارس، منحه له ملك بريطانيا العظمى 1915. اُستقبلت أم كلثوم بقصائد شخصيات العراق: شعراء وأُدباء فقهاء من معتمري العمائم. كانت العمائم من نوع آخر، يُستظل بها من الهاجرة، ولا يُخشى منها على الدنيا والدين، لا تؤمن بالسلاح النووي، وليس تحتها سوى الخير: محمد جواد الشبيبي (ت 1944)، ونجله محمد باقر الشبيبي (ت 1960)، ومحمد بهجة الأثري (ت 1996)، وإبراهيم أدهم الزَّهاوي (ت 1962). غنى محمد عبد الوهاب، أمام الملك فيصل الأول، لأحمد شوقي (ت 1932)، وكان ماء العراق عنواناً للقصيدة وموضوعاً، ومنها: "يا شراعاً وراء دجلة يجري.. في دموعي تجنبتك العوادي.. سِرْ على الماءِ كالمسيح رويداً.. وإجرِ في اليمِّ كالشعاع الهادي". إلا أنه من سوء حظ العراق أن يهوي الشِّراع مبكراً، ولم يدم مشرعاً سوى خفقة مِن الزَّمن (1921-1933)، هي سنوات البداية من اللاشيء، ليأتِ مثل الشاعر المتفقه بالشَّعوذة والحيلة ليضحك على العقل العراقي. كتب الأديب والمحامي العراقي أنور شاؤول (ت 1984)، وهو أحد المكلفين إلى جانب جميل صدقي الزَّهاوي (ت 1936) باستقبال الضَّيف بخانقين: "مازلتُ أتذكره كيف طلع علينا بقامته المديدة، وجسمه الممتلئ يلفه جلباب قمحي اللَّون فضفاض، تسترسل على صدره لحيةٌ بيضاء عريضةٌ، وهو مادٌ إلينا يديه، يتطلع بعينين شهلاوين واسعتين يَشع منهما بريق ساحر. كيف أنسى تلك الصُّورة الملائكية لشاعر الهند الكبير وفيلسوفها الحكيم رابندرانات طاغور" (قصة حياتي في وادي الرَّافدين). كان ذلك في أواخر أبريل 1932، لا قر ولا حَر في ربوع العراق، رحب الزَّهاوي بطاغور قائلاً: "أهلاً بشاعر الهند الملهم وحكيمها العظيم"، فرد الضَّيف: "وأهلاً بشاعر العرب الغريد وفيلسوفهم الحكيم". لم تكن المشاعر حينها متصلبة، فلو قيض لطاغور أن يقولها اليوم لفسدت الزيارة، فآل الزَّهاوي من دوحة كردية فكيف يُخاطب: بشاعر العرب! كذلك لابد أن يتألف الوفد المُستقبل حسب المحاصصة، وربما اُختير له رئيسان، ولأحتار طاغور بمَن يبدأ العناق. أعدت بغداد لطاغور أسبوعاً حافلاً، من أماسي شعرية ولقاءات أدبية، واستقبله الملك مرتين، مع صاحب العمامة السوداء المهيبة محمد الصَّدر (ت 1956)، ووجهاء العراق الأكابر. ألقى طاغور قصيدته "دهشمايا" (صراع النَّفس في محنتها) بالإنجليزية والبنغالية، اُعجب الحضور بإلقائه، مثلما يُعجب السامعون بقصائد الجواهري (ت 1997) بصوته وهيبته، فربما يُنفرك الإلقاء من معلقة المعلقات، المفروض أن يتحلى الشاعر بجودة إلقاء، مع أنه لا يُسمن الشعر الهزيل. طلب الجمهور سماع القصيدة بالعربية، فقام بهذه المهمة شاؤول، وجعلها بفنه مقفاة، فيومها لم يظهر الشعر الحديث بعد، ومنها: "ليس ما تسمعه الأذن صدىً.. رهبة الأوراق في الغاب الكثيف" (قصة حياتي). كثر الكلام عن أغنية لها شعبية واسعة ببغداد "يا بلبل غني الجيرانا"، حتى صار موثقاً على أنها من كلمات طاغور، وأن الزَّهاوي مترجمها. لحنها الملحن العراقي صالح داوود الكويتي (ت 1979)، وغنتها زكية جورج (ت 1966). أرى أنها ليست مِن مزاج طاغور، ولا الزهاوي، لكنها غُنيت في حفل من حفلات الاستقبال، وما أكثر النصوص اليتيمة من اسم صاحبها. وما يحزُّ في النَّفس، أن صاحب الصوت الشجي حسين السعدي أعاد غناءها، في أواسط السِّتينيات، لكن الفترة القومية آنذاك لم تسمح بإعلان اسم ملحنها كونه من يهود العراق مع أن هذا الرجل وأبناء قومه كانوا وراء النهضة الفنية بالعراق، وما أُعجب الجمهور المصري وكبار فنانيه بالمقام العراقي إلا بفضلهم، لكن الأغنية احتفظت باسم مؤلفها الخطأ، على أغلب الظن. كانت الأغنية دليلاً آخر، إلى جانب زيارة طاغور، على الذوق الرفيع الساري في روح بغداد، فكلماتها، سجلتها من صوت مغنيتها الأُولى: "يا بلبل غني الجيرانا.. غني وتفنن ألحانا.. فبُنيتهم سرقت قلبي.. وليبقى لديها جذلانا.. ولحقلِ أبيها مِن حقلي.. تتطاير أسراب النَّحل.. فعشقتُ النَّحلة من حبي.. ووجدت فريستها عقلي.. أزهار حديقتها تُشرى.. في السُّوق تملؤها نشرا.. لو كنتُ غنياً ذا كسب لشريتُ الباعة والزَّهرا...". إن عظمة طاغور ليست في شعره وأدبه فحسب، إنما كان نابذاً للتعصب، مبشراً بمحبة الإنسانية، تخلى عن وسام الفارس البريطاني عندما تعرض شعبه الهندي إلى مجزرة قُتل فيها 400 إنسان، كان لا يدري من أي قوم هم ومن أية ديانة. فأين ضيف بغداد طاغور من ضيوف شاشتها الرسمية اليوم، وكأن التسع والسبعين سارت بنا إلى الوراء كل سنة منها تُعادل قرناً من الزمان.