في اليوم الذي وجدت فيه نفسي بحاجة إلى العودة من العاصمة الصومالية مقديشو، إلى كيب تاون بجنوب إفريقيا، لم أجد خياراً آخر سوى طائرة "فوكر" كينية، تستخدم عادة لشحن البضائع، إلا أنها تعود محملة بالركاب إلى نيروبي. وما أن تم جلوس كل واحد منا على مقعده، حتى طلب كابتن الطائرة الكيني، من كل واحد من المسافرين، تقديم جواز سفره، وقال إنه سيحتفظ بالجوازات حتى لحظة وصولنا إلى نيروبي. وكم ثار غضبي عندما سألت الركاب الآخرين- الذين كانوا جميعهم صوماليين- عن ماهية الجوازات التي يستخدمونها للسفر. فقد كان اثنان منهما يحملان جوازات سفر كندية، أما الثلاثة الباقون، فكان أحدهم يحمل جوازاً سويدياً، بينما يحمل الآخران جوازي سفر هولنديين، يتبعان للاتحاد الأوروبي. فتوجهت بسؤالي إلى كابتن الطائرة، عما إذا كان سيطلب من الركاب من الجنسيات الأخرى من غير الصوماليين، مثل الكنديين والسويديين، والهولنديين- إن وجدوا- جوازاتهم أيضاً، في رحلته هذه المتجهة من مقديشو إلى نيروبي؟.
وكان الكابتن قد أدرك ما قصدت قوله من ذلك السؤال، فرد عليَّ بسؤال استيضاحي آخر: ما الذي تود قوله على وجه التحديد؟ فجاء ردي أنني أحتج على أن يطلب مني مواطن كيني، تسليمه جوازي، وهو بصفته تلك، ليست له سلطة من أي نوع، على المواطنين الصوماليين! هل نسي أننا لا نزال حتى تلك اللحظة فوق الأراضي الصومالية، وليس الكينية؟ وهل كان يدرك ذلك الكابتن، أن الصومال لا تزال دولة مستقلة ولها ذاتيتها؟ هَمْهَمَ الكابتن بعبارات مبهمة غير مسموعة عن الولايات المتحدة الأميركية. ولكنه ربما ذكر شيئا عن النظرة الأميركية لعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو عالم تبدو فيه الصومال، دولة راعية لشبكة إرهابية، يشتبه في أنها وراء تفجيرات فندق إسرائيلي في مومباسا الكينية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع تذكر ما قاله عن 11 سبتمبر ولا تفجيرات مومباسا، إلا أن سلوكه كان ينمُّ عن أن مجرد ذكر اسم الولايات المتحدة في صومال اليوم، كان كفيلا بأن يغرس الرعب في قلوب الصوماليين. وحين طلبت منه أن يرفع صوته حتى أفهم ما يقول، رد عليَّ بأن له الحق في أن يمنعني من السفر على متن طائرته. ثم قال لي ملوِّّّحا ذراعه، إن على أن أقرر ما إذا كنت أريد السفر أم لا؟ هذا وتسري شائعات مفادها أن السلطات الكينية تطالب الطيارين الكينيين، بالاحتفاظ بقائمة بأسماء جميع الركاب- بمن فيهم المواطنون الكينيون- الذين يغادرون مقديشو. وفي حال كان أي من هؤلاء المسافرين، يحمل جوازاً صومالياً، أو يحمل اسماً يشتبه في أنه عربي، فإن على الطيارين تبليغ السلطات الكينية المتعاونة مع الأميركيين، حتى تتم مراقبة حركته داخل كينيا.
ولكنني فقت من الاستغراق في عواطفي وانفعالاتي بتلك الفوضى التي ألمَّت بالصومال منذ لحظة مغادرة القوات الأميركية له في عام 1993. وقد خلفت مرحلة ما بعد الانهيار السياسي تلك، آثاراً بالغة السلبية، على الطريقة التي يعامل بها الصوماليون، في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وفي نهاية الأمر، فقد أدركت ألا خيار آخر لي، سوى تقديم جواز سفري لكابتن الطائرة، وكنت لحظتها مذعناً لضعف موقفي، في ظل هوس الخوف من الإرهاب، الذي طغى على كل شيء هناك. وطوال الرحلة التي استمرت إلى ما يتراوح بين ساعة ونصف إلى ساعتين، كنت أحاول جاهداً لجم غضبي وانفعالي، ليس تجاه الكابتن أو الولايات المتحدة الأميركية، بل تجاه شعبي وأهلي في المقام الأول.
وطافت بذهني أسئلة حول لماذا سمحنا كشعب، لمثل هذه الإهانات أن تحل ببلادنا... ولكل هذا الوقت؟ الإجابة بالطبع أننا لم نعد نملك وطننا نفسه. فبحكم كونه بلداً بلا حكومة نافذة وقائمة فعلياً، أصبح بلداً مفتوحاً على مصراعيه أمام الجميع. وهكذا ففي وسع كل من شاء أن يدخل، دون أوراق ثبوتية ولا جوازات سفر، ولا تأشيرات. كما لا تتمتع أجواؤها ولا حدودها باحترام أحد، سيما الجارة أثيوبيا، التي كثيراً ما اقتطعت قواتها مساحات مقدرة من الأراضي الصومالية- بالنيابة عن أميركا- بحجة مطاردة وملاحقة الإسلاميين. وحتى مؤسسات مثل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، لم تأبه لمجرد توبيخ أثيوبيا على سلوكها العدواني هذا. ضمن ذلك، فقد سرت أخبار في العام الماضي، عن وحدة قوات عسكرية أميركية، توغلت إلى داخل العاصمة مقديشو- تحت إشارة موافقة من أحد لوردات الحرب- واختطفت إسلامياً، أنهضته من فراش المرض الذي كان مستلقياً عليه!
وفي مقديشو تبدو مظاهر الانهيار واضحة أينما ذهبت، بدءاً بالمطارات التي يسيطر عليها ويديرها لوردات الحرب، الذين يطالبون الركاب بدفع رسوم أطلقوا عليها "رسوم الوصول"! أما المواطنون الذين فقدوا منازلهم، وأولئك المهاجرون إلى العاصمة من الريف، فيسكنون في مبان مهدمة وخرائب، كانت يوماً مقرات للدواوين والمكاتب الحكومية، أو دوراً للمعاهد والمدارس الفنية، ومن ضمن تلك الخرائب، المبنى السابق لوزارة الخارجية. ثم إنه لا توجد مؤسسات أو منظمات خيرية ترعى هؤلاء، وتتابع تفاصيل