عندما يتحدث المحافظون وبعض الخبراء الاقتصاديين المحسوبين على الأصولية الليبرالية عن العولمة فإنهم يقرنونها دائماً بالمزايا والإيجابيات باعتبارها المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي وتحقيق الرخاء والازدهار بعيداً عن القيود والتضييق، ولذا فإن كل من يعارض هذه الفكرة ويشكك في مقولة العولمة تساق ضده الانتقادات اللاذعة ويُتهم بالحمائية والانغلاق. ولكن الكتاب الذي نعرضه اليوم وعنوانه: "العولمة ومفارقاتها" لمؤلفه أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة هارفرد، داني رودريك، لا يبالي بانتقادات أنصار العولمة فيخوض في الكشف بجرأة وشجاعة عن عوراتها والتصورات الخاطئة المحيطة بها طارحاً مجموعة من الأسئلة التي تتحول من مجرد افتراضات إلى حقائق يثبتها من خلال التحليل، فماذا لو كانت العولمة التي لا يكف الليبراليون الجدد على التغني بها مجرد وسيلة لإغناء المحظوظين وإفادة النخب القليلة على حساب الجماهير العريضة التي لا يصلها إلا النزر اليسير من فيئها؟ وماذا لو كان التدفق الحر للبضائع ورأسمال المال عبر الحدود الوطنية والمكاسب المترتبة على ذلك يفوق بكثير تكلفة فقدان الوظائف وتدني الأجور؟ فمن المعروف اليوم أن تحول الصناعات من بلدان إلى أخرى بحثاً عن عمالة رخيصة وأرباح أكبر فاقم من معضلة البطالة في البلدان المتقدمة كما خلق حالة من عدم التوازن بين طبقة من أصحاب الوكالات والاقتصاد غير المفيد وبين طبقة عاملة محرومة من حقوقها في بلدان لا تتوفر على تشريعات مثل الهند والدول الآسيوية؟ ويبقى السؤال المهم عن الدول التي تدعو اليوم إلى اعتناق مذهب العولمة في صورتها المتطرفة: ألا يعلمنا التاريخ أنها قبل بلوغها مرحلة الانفتاح والدعوة إليه مارست هي نفسها الحمائية في أبشع صورها قبل أن تتقوَّى شركاتها وتراكم من الخبرة ورأس المال ما جعلها حاليّاً في منأى عن أية منافسة حقيقية ليقتصر همها على فتح الأسواق والقضاء على الصناعات المحلية؟ الحقيقة أن المؤلف في كتابه يسعى إلى تأكيد هذه الفرضيات والأسئلة ليثبت للقراء أن العالم كما نعيشه في الواقع يختلف تماماً عن ذلك الذي يشيده في مخيلاتهم الاقتصاديون وأساتذة الجامعات اعتماداً على النظريات. ولكن حتى لا يوصم الكاتب بأنه يساري، أو من الجماعات المناهضة للعولمة يوضح منذ البداية أنه ليس ضد العولمة عندما تكون معتدلة وترحب بالتشريعات وتدخل الدولة لحماية من هم أقل حظاً وأكثر تضرراً من تفاعلاتها. إنه يرفض فقط العولمة المفرطة والمنفلتة من عقالها أي تلك التي تبشر بها الشركات الكبرى والمنظرون الاقتصاديون الذين إنما يفعلون ذلك لأن نتائج هذه العولمة وثمارها تصب في جيوبهم في النهاية. ولذا يطرح الكاتب فكرة أساسية تعتبر الخط الناظم لأفكاره مفادها أن سياسة الأسواق المفتوحة وتحرير التجارة لضمان تدفق سهل وسريع لرؤوس الأموال لن تنجح وتحقق الغاية الحقيقية في النهوض بالاقتصاد إلا إذا اندرجت ضمن بيئة اجتماعية وقانونية وسياسية تصاحبها مؤسسات قوية توفر الشرعية لهذه الأفكار وتضمن توزيعاً شاملاً لمكاسب الرأسمالية واستفادة الجميع منها. ويرد الكاتب على من يجادلون في معرض دفاعهم عن العولمة المنفلتة بأن الدول الأغنى في العالم هي الأكثر انفتاحاً على اقتصاد السوق موضحاً أن تلك الدول التي يُراد لها أن توفر النموذج تديرها هي أيضاً أكبر الحكومات وأقوى المؤسسات وأكبر شبكات الرعاية والحماية الاجتماعية. والسبب الذي يجعل العولمة غير قادرة لوحدها على توفير الرفاه الموعود يرجع، حسب الكاتب، إلى طبيعتها الذاتية، فالعولمة تعمل على خلخلة الموازين والانتقال السريع للأموال والخبرات وغيرها، وهو ما ينتج عنه خلق حالة من عدم الاستقرار وإنتاج فريق من الرابحين مقابل فريق من الخاسرين. وبالطبع فإن أي مجتمع ديمقراطي لن يسمح بحالة عدم الاستقرار تلك إلا إذا ضمن توزيعاً عادلا لخيرات العولمة بدل احتكارها في يد قلة قليلة، وهنا يأتي دور الحكومات والدولة بمؤسساتها، إذ لا يمكن تكريس العدل في غياب السلطة العليا للدولة. وقد كان التوزيع العادل لثمار النمو وعدم تهميش فئات واسعة من المجتمع شعاراً لجميع مراحل التطور الاقتصادي للدول المتقدمة، فعندما بدأت الدول الأوروبية في وضع أسس التجارة الحرة في القرن التاسع عشر كانت الشركات الكبرى مدعومة من قبل الحكومات، وكانت بمثابة دول داخل الدول، وعندما أُقر نظام "بريتون وودز" عقب الحرب العالمية الثانية كان واضحاً أن الهدف الرئيسي هو الاستجابة للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للبلدان، ولكن العولمة التي تقيدت في السابق بقواعد حماية المجتمعات والحفاظ على تماسكها بدأت تخرج عن السيطرة عندما اختطفتها أفكار وتصورات تسعى إلى الإطاحة بكل القيود أمام انتقال البضائع ورؤوس الأموال بدعوى أن عدم السير على هذا الطريق سيضحي بالفاعلية والنمو الاقتصادي. غير أن المفارقة الكبرى للعولمة التي يكشفها الكاتب تتمثل في أن البلدان التي حققت أعلى معدلات النمو في عز ما يعرف بـ"إجماع واشنطن" وهي اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند لم تعتنق قط ما جاء في الإجماع من توصيات تحث على تبني سياسة السوق الحرة! ويواصل الكاتب شرح هذه المفارقة بأن العولمة لن ينتفع منها الجميع إلا إذا تقيدت كل الدول بنفس القواعد من خلال حكومة عالمية، وهو ما لن يتحقق على أرض الواقع لأنه لن ترضى دولة بالتخلي عن سيادتها الوطنية من أجل كيان متعالٍ عن الدول. الكتاب: العولمة ومفارقاتها المؤلف: داني رودريك الناشر: شركة نورتون تاريخ النشر: 2011