يعرف الفلاسفة ماذا تعني الازدواجية؟ في النص هي المجاز عندما يفهم النص على وجهين مختلفين. وفي الحياة هو الاشتباه عندما يجد الإنسان نفسه في موقف مزدوج وكلاهما صحيح، الحياة خير أم شر. وقد تنطبق هذه الازدواجية على المؤسسات ابتداء من الأسرة حتى الدولة. يفضل البعض أن يعيش الإنسان وحيداً مع الطبيعة، ويفضل البعض الآخر أن يعيش في نظام اجتماعي سياسي. فالإنسان اجتماعي بالطبع. وكان يوم الفرح، يوم انتصار الثورة، وتخلي الرئيس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وخرج هتاف "الجيش والشعب يد واحدة". وكما أيد الشعب ثورة يوليو 1952 أيد الجيش ثورة الشعب يناير 2011. وبدأت أهداف الثورة تتحقق: إقالة رأس النظام، القبض على رموز النظام في الدولة والحزب، حل الحزب الحاكم، حل جهاز مباحث أمن الدولة المكلف باعتقال وتعذيب المواطنين، إطلاق حرية تكوين الأحزاب، تعديل مواد الدستور المقيدة للحريات، إطلاق حرية المظاهرات للتعبير عن مطالب الثورة، الوعد بتسليم الحكم للمدنيين بانتخاب البرلمان والرئيس في ظرف ستة أشهر. وانتهت ليلة العرس بليالي التخوف من العيش المشترك وعدم تحقيق باقي أهداف الثورة: إلغاء المحاكم العسكرية، الإفراج عن المعتقلين، محاكمة المسؤولين عن قتل الشهداء، محاكمة الرئيس وباقي رموز النظام. تصفية جهاز الدولة في الإعلام والتعليم والداخلية والخارجية من أعوان النظام، التباطؤ في تحقيق مطالب الثورة بدعوى الصبر والحاجة إلى مهلة من الوقت، الهدم سهل والبناء صعب، ضرورة مرحلة انتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد، وعشرات الحجج الأخرى التي كان يصوغها أنصار النظام السابق الذين ما زالوا متغلغلين في أجهزة الإعلام. وبدأت ليالي التوجس واكتشاف أن المجلس العسكري له واجهتان: واجهة مع الثورة التي من أجلها أيده الثوار، وواجهة مع النظام القديم وهو جزء منه وكان يعمل تحت رئاسته. وتكوين المجلس العسكري هذه المرة ليس تكوين مجلس قيادة الثورة في 1952. فأعضاء المجلس العسكري عسكريون مهنيون وليسوا أيديولوجيين. رصيدهم عسكري خالص في نصر أكتوبر 1973. وشاهدوا الانقلاب على الثورة فيما سمي بثورة التصحيح في 15 مايو 1974، ثم التحول عنها مئة وثمانين درجة منذ قوانين الاستثمار، وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص ولرأس المال الأجنبي، ثم بيع القطاع العام بدعوى الخسارة، ثم بيع أراضي الدولة بدعوى تشجيع الاستثمار الأجنبي. وسمي ذلك كله "الانفتاح الاقتصادي" كمقدمة للانفتاح السياسي الذي انتهى بزيارة القدس في نوفمبر 1977 بعد مظاهرات يناير من العام نفسه، واكتشاف أن الناصرية ما زالت في القلوب وفي وعي الجماهير. ثم محادثات كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة السلام في 1979 والأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان ما زالت محتلة، وما زالت حتى الآن. كان "الضباط الأحرار" أيديولوجيين، وفديين وماركسيين وإسلاميين ومن مصر الفتاة. وكان لهم نضالهم ضد الملك والإقطاع والإنجليز. كانوا جزءاً من الحركة الوطنية المصرية، يعبرون عن نضالها في الأربعينيات الذي جسدته لجنة الطلبة والعمال في 1946. ولذلك أسرعوا بالخطابة، وواجهوا الشعب بخطابات وشعارات ثورية "الاتحاد والنظام والعمل"، و"ارفع رأسك يا أخي"، "والعمل شرف، العمل قيمة، العمل حياة"، و"حرية اشتراكية وحدة". أما المجلس العسكري هذه المرة فهو مجلس مهني. أعضاؤه غير معروفين. ليست لهم أيديولوجيات سياسية يعبرون عنها. لا يخاطبون الشعب باعتبارهم ثواراً. بياناتهم العسكرية أشبه بإعلانات. تخلو من أية مواقف سياسية مسبقة. ثم بدأ الصدام والشقاق بين الثوار والمجلس العسكري. والتخوف الدفين بدأ يطفو على السطح بالتدخل في تشكيل مجلس الوزراء، وطغيان سلطته العسكرية على السلطة المدنية حتى أصبح رئيس مجلس الوزراء محاصراً بين المطرقة والسندان، بين ثوار ميدان التحرير الذين حملوه على الأكتاف، والمجلس العسكري الذي يقيد حركته على رغم ما لدى بعض وزرائه من خبرة اقتصادية محلية وعربية ودولية. وانفجر الشقاق على السطح بما حدث في ميدان العباسية قبل وصول المتظاهرين إلى وزارة الدفاع حيث مقر المجلس العسكري للمطالبة بتحقيق باقي مطالب الثوار وأهداف الثورة. وسدت المنافذ إلى الوزارة وإلى كافة الطرق المؤيدة لميدان العباسية. وبدلًا من الاصطدام بالمتظاهرين مباشرة عن طريق قوات الجيش أو الأمن المركزي أو الشرطة وهو ما قد يُحسب ضد المجلس العسكري وقع الاصطدام بطريق غير مباشر، عن طريق استئجار "بلطجية" فوق أسطح المنازل يقذفون بالحجارة وبقنابل "المولوتوف" ثم الاصطدام بهم بالعصي والأسلحة البيضاء لتفريقهم، وإطلاق رصاص قوات الأمن الفارغ في الهواء وكأن الأمر خلاف بين فريقين، الأول مع المتظاهرين يهتف ضد المجلس العسكري، والثاني مع المجلس العسكري يهتف ضد المتظاهرين. ووقع مئات الجرحى كما كان الحال قبل الثورة. وتتكرر موقعة "الجمل" نفسها من ميدان عبدالمنعم رياض إلى ميدان العباسية. وزاد الطين بلة بيان المجلس العسكري الذي قرأه رئيسه بنفسه يتهم فيه فصيلًا من الثوار بأنهم هم المسؤولون عن هذه المسيرة وليس كل الثوار، وبأنهم عملاء للخارج، يتلقون أموالاً ودعماً. وهم شيوعيون لا يمثلون مجموع الحركة الوطنية وهو نفس الخطاب السائد ضد الثورات السورية واليمنية والليبية. وقد أدى هذا الموقف، الصدام مع المتظاهرين، والبيان العسكري لتبريره إلى عكس ما كان يهدف إليه. فبدلًا من عزل فصيل من الثوار بدأ باقي الفصائل بالتجمع حوله دفاعاً عنه. هذا الفصيل اليوم، وذاك الفصيل غداً. وفي الوقت نفسه الذي فيه يصدر المجلس العسكري قانوناً موحداً للانتخابات وحد كل أحزاب المعارضة ضده. ورفض جميع الثوار مبدأ الإعلان الدستوري السابق على وضع الدستور وبدء الانتخابات البرلمانية والرئاسية لتقييد العملية الديمقراطية، والأخذ باليسار ما أُعطي باليمين. ويستمر التباعد بين الثورة والجيش يوماً وراء يوم من دون الوصول إلى القطيعة تماماً كما حدث في ثورة يوليو من 1952- 1954 حتى وقع الصدام بين القوى الوطنية التي كانت موجودة قبل الثورة، "الوفد" و"الإخوان" والشيوعيين و"مصر الفتاة"، وتفرد الجيش بمفرده طوال عمر الثورة بجمهورياتها الثلاث. كما تجمع الثوار ضد التباطؤ في تحقيق باقي أهداف الثورة، ورفض المجلس الانتقالي المشترك من مدنيين وعسكريين، وسرعة تسليم السلطة إلى المدنيين، وضرورة إشراف مؤسسات المجتمع المدني المحلي والعربي والدولي على حسن سير الانتخابات. والخوف من أن تأتي لحظة يستقيل فيها رئيس مجلس الوزراء لأنه لم يحقق كل وعوده للثوار، وتستقيل معه النخبة الاقتصادية. فيحدث الاستقطاب بين الشعب والجيش، بين الثوار والمجلس العسكري مما يوحد فصائل المقاومة، ويفقد المجلس العسكري وجهه الثوري الذي قابل به الثوار وارتكن على وجهه المستند إلى النظام القديم. فتعود الثورة إلى ميدان التحرير منطلقها الأول، ويعود الجيش إلى ما كان جزءاً من النظام القديم الذي ظل باقيّاً على رغم سقوط رأسه. كان للمجلس العسكري وجهان في بداية الثورة. وبدأ الآن يميل إلى وجهه القديم بعد أن فقد وجهه الجديد. وفقد ميزان التعادل بين الوجهين. ولا حل إلا بأن يعود المجلس إلى ميزان التعادل بين الوجهين أو على الأقل كعلاج سريع أن يميل إلى وجهه الثوري حتى يصحح مساره ويعيد اللحمة بينه وبين الثوار. ويعود شعار الثورة الأول "الجيش والشعب يد واحدة" من أجل تحقيق الأهداف الثورية، والعمل سويّاً على بناء مؤسسات الدولة الثورية وليس إعادة توزيع السلطة لصالح النظام القديم مما يجعل الثوار يحنون أكثر فأكثر إلى ثورة "الضباط الأحرار" في عيدها الستيني.