ليبيا... أين آل القذافي من آل السَّنوسي!
ذاع صيت ليبيا في الآفاق خلال الاثنين والأربعين عاماً، وهي فترة حكم العقيد مُعمر القذافي (1969- 2011)، لكن ليس في الصِّناعة ولا الزِّراعة ولا في التَّطور المدني والرَّخاء الاجتماعي إنما اشتهرت بملابس عقيدها الفضائية، وكتابه الأخضر، وقصصه مِن ضرب "القرية القرية"، ثم اشتهر بعبارة "زنقة زنقة"، وجنون عظمته، واسمها الطَّويل "الجماهيرية العربية الليبية الاتحادية الدِّيمقراطية الاشتراكية الشعبية العُظمى".
وكان اسمها في ظل ملكها والفاعل مِن أجل تأسيسها واستقلالها محمد إدريس السَّنوسي (ت 1983): "المملكة الليبية المتحدة". والسَّنوسي مِن أُسرة بانَ التَّصوف والتزهد على أقطابها، ويُشهد لها بالكفاح مِن أجل حرية ليبيا. كان الوجيه أحمد الشَّريف السَّنوسي (ت 1932) ترأس الزَّاوية السَّنوسية، وطُرد من ليبيا في غواصة وطاف على البلدان، وجاهد ضد الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي في أكثر من بلد مجاور. قال فيه شكيب أرسلان (ت 1946): "اتحدت الكلمة على نزاهة هذا الرَّجل، وتجرده عن المآرب الشَّخصية،"(خلاصة رحلة السَّيد أحمد الشَّريف السَّنوسي).
ذَكر الأمير أرسلان أن الأتراك (العثمانيين) قد وجدوا في أحمد السَّنوسي مِن الثِّقة حداً أن يقرر فيه "مجلس المبعوثان" (البرلمان العثماني بعد نجاح ثورة الدستور 1908 أو ما عُرف بالمشروطية) بتعيينه ملكاً على العِراق، وذلك في أبريل(نيسان) 1921. إلا أن الملك فيصل الأول (ت 1933)، وكان أميراً حينها، وبدعم مِن الإنجليز سبقه إلى العِراق. لكن ما أهمية قرار "مجلس المبعوثان" العثماني والعراق كان، في تلك الآونة، تحت السيطرة البريطانية كاملاً! كذلك أن مصطفى كمال أتاتورك (ت 1938) قد عرض على أحمد السَّنوسي منصب الخلافة بعد عزل آخر الخلفاء العثمانيين (1924) رسمياً، ورفضها السَّنوسي بعُذر أن أحوال العالم الإسلامي لا تشجع (المصدر نفسه). بمعنى أنه حسب حساب تبدل الأيام، ولم يبق متحجراً تحجر حزب "التحرير" الإسلامي.
أثبت هذا الرجل تسامحه الديني، عندما زار كنيسة "بيت لحم مهد سيدنا عيسى عليه السَّلام، وكان الوقت وقت عصر، وقد حان وقت الصَّلاة، فأمر السَّيد (السَّنوسي) المؤذن فأذن في داخل الكنيسة، وصلى العصر بها. وبعد الصَّلاة قال أحد الرِّفاق: يا سيَّدي، أتجوز الصَّلاة داخل الكنيسة؟! فقال له السَّيد، رضي الله عنه: يجوز يجوز"(المصدر نفسه). هذا ما أخرجه أرسلان في رحلة أحمد السَّنوسي. وأرسلان كان على معرفة وصلة به، وهو الذي نقل إليه ما أرسله له الوجيه الكويتي جاسم الإبراهيم مِن مال بعد ضيق الحال وعجزه عن السَّفر، عندما رفضت فرنسا وجوده بدمشق ورفضته بريطانيا في أي بلد لها كلمة عليه. لكنه وصل إلى الحجاز واستقبل هناك بحفاوة، وظل حتى دفنه في تربة البقيع.
بعده تولى الأمر الملك محمد إدريس بن محمد المهدي السَّنوسي، وجاهد وكان المجاهد الشَّهير عمر المختار (أُعدم 1931) مِن رفاقه في الحركة السَّنوسية، حتى أنشأ المملكة الليبية المتحدة (1951) وبويع ملكاً على مملكة دستورية، فقد صدر الدُّستور قبل الإعلان عن المملكة بحوالي شهرين، وهو لم يعلن نفسه ملكاً عبر دبابة أو سيف إنما عبر جمعية وطنية. كان الرَّجل متمدناً، يعرف جيداً ما للدولة وما له، وما للدولة وما للدين، فلم يورط شعبه بحكم ديني أو مذهبي.
كان إسناد الحركة السنوسية التحررية إحدى محطات الاتفاق بين علماء الدِّين الشيعة بالعِراق وعلماء سنته، على الرَّغم مِن وجود الحكم العثماني المعروف بتمييزه الطَّائفي، وذلك عام 1911، أي قبل الحرب العالمية الأُولى (1914 -1918). جاء في فتوى علماء الشِّيعة: "مِن علماء النَّجف الأشرف إلى كافة المسلمين الموحدين، ومِن جمعتنا وإياهم جامعة الدِّين... "(مجلة العِلم، نوفمبر 1911). وكان مِن موقعي الفتوى: المرجع محمد كاظم اليزدي (ت 1919)، والسَّيد الفقيه والشَّاعر محمد سعيد الحبوبي (قُتل 1915). أما علماء السنة فأصدروا فتوى مماثلة باسم نقيب أشراف بغداد السَّيد عبد الرَّحمن النَّقيب (ت 1927)، نشرتها مجلة "العِلم" كاملةً، وهي الصَّادرة بالنَّجف، في العدد نفسه: "لايحة شريفة لسيادة نقيب الأشراف ببغداد في وجوب اتحاد المسلمين".
يومها كتبت "العِلم" بقلم منشئها السَّيد هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967) ما نصه: "نرجو أن نؤثر في القاعدين منا اليوم حركة العالم الإسلامي مِن: تونسي وسنوسي ويماني ومصري وهندي وتركي وعربي وعجمي وسُني وشيعي ومسيحي وإسرائيلي ووثني. عسى أن نسترجع سالف عزنا". كان هذا خطاب الأيام الخوالي انطلق مِن العِراق، وما فيه مِن دعوة للتعايش على اختلاف أديان النَّاس ومذاهبهم، وهو مسجل بقلم أحد علماء الدِّين لا غيره. أقول هذا كي ألفت النَّظر إلى ما صار عليه العِراق بعد أبريل (نيسان) 2003، وكيف أخذت الطَّائفية المذهبية والدِّينية تقضم ما تبقى مِن ذلك التَّعايش، حتى صار الذَّبح على الهوية، وخرج مِن رجال الدِّين مَن يشرأب إلى الفتنة.
ماذا جرى على ليبيا بعد آل السَّنوسي، وعزل ملكها الذي ظل محتفظاً بثيابه الزهيدة ولم يعتمر التَّاج، ولم يدع أنه ملك الملوك، مثلما نفخ القذافي نفسه ليكون ملك ملوك أفريقيا، وصرف المال الليبي على ثيابه العجائبية وإسقاط الطَّائرات المدنية، والاغتيالات المروعة بحق وجهاء السِّياسة والمجتمع الليبي، وتغييب الشخصيات التي تُفتقد في هذه الحمى الطَّائفية والتعصب الديني، مثل السَّيد موسى الصَّدر(1978). كان يمكن للفرد الليبي ومثله العِراقي، في ظل أنظمة تجمع بين الثروة والعقل، أن يظهرا بمظهر الغنى لا الفقر داخل بلديهما وخارجهما، ولا يملآن بلدان اللجوء السِّياسي والاقتصادي.
قبل خمسة وثلاثين عاماً سرنا مشهد فيدل كاسترو، وهو يقف إلى جانب معمر القذافي لإعلان سلطة الشعب، ودستور يكون فيه القرآن شريعة لليبيا، والشعب لا سواه هو أساس الحُكم، وكنا ننظر بإعجاب لاقتباس القذافي الثوري مِن الاسم الرَّنان في عقولنا وأفئدتنا كاسترو، مِن دون أن نحسب حساب القتلى الليبيين باسم الشعب، ودون أن نقرأ ولو حرفاً واحداً عن محمد إدريس السنوسي، وثوريته في النَّزاهة إلى درجة أنه أوقف المصروفات الرسمية له وأعادها إلى السَّفارة الليبية في لحظة الانقلاب عليه قائلاً: الآن لست ملكاً(سمعتها مِن ليبي كان يبغض الملك)! ختاماً، انظروا في المصائر فستخبركم الكثير!