تأكد ما قررناه من قبل، من أن اليوم التالي للثورة، لا يقل أهمية عن يوم اندلاع الثورة! وهكذا فإن يوم 25 يناير سيسجله التاريخ باعتباره رمزاً ساطعاً على ثورة الشعب المصري، بقيادة طلائعه الشبابية الثورية على النظام السلطوي الاستبدادي الذي ترأسه الرئيس السابق مبارك لمدة ثلاثين عاماً كاملة. كان شعار الثورة الأساسي هو "الشعب يريد إسقاط النظام". وهذا الشعار في إيجازه المعجز لا يعني إسقاط رأس النظام وحسب، وقد سقط فعلاً، بل إنه يحاكم الآن محاكمة وصفت بحق بأنها "محاكمة القرن"، بل يعني في المقام الأول إسقاط سياسات النظام التي أدت إلى قهر الشعب سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً. ومن المؤكد أن التغيير الجذري لسياسات النظام السابق لم يبدأ بعد، لأن كل الأطراف السياسية مشغولة بمشكلات الحاضر المعقدة التي تلت حدوث الثورة، ولم تعط الوقت الكافي لرسم رؤية استراتيجية للمستقبل. وحتى بالنسبة للمستقبل القريب، وأعني خطة الطريق التي رسمها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، التي تتمثل في إجراء انتخابات أولاً لمجلس الشعب والشورى، وتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، هذه الخطة كانت محل خلافات شديدة. فقد انقسمت التيارات السياسية في مجال المفاضلة بين الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً. وأيّاً ما كان الأمر، فإن تأمل المشهد السياسي الراهن في مصر لابد أن يسلمنا إلى نتيجة قد تبدو صادمة لكثيرين، وهي أنه قد حدث في الواقع انقلاب على مبادئ ثورة 25 يناير. وهذا الانقلاب لم يحدث دفعة واحدة، ولكن اكتملت حلقاته عبر مجموعات متتالية من الشعارات والممارسات، أدت بنا إلى هذا الموقف الذي تبدو فيه ثورة يناير في مفترق الطرق. وأول تجليات هذا الانقلاب هو الشعارات التي رفعتها بعض التجمعات السياسية الثورية ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مطالبة بإسقاطه وتشكيل مجلس رئاسي مدني. وهذا المطلب مضاد تماماً لشعار الثورة الأكبر، "الجيش والشعب إيد واحدة". كان هذا شعاراً تلقائيّاً صادقاً بحكم إدراك شباب الثورة أن القوات المسلحة وقفت مع ثورة الشعب منذ أول لحظة، وقد مارست دورها التاريخي في الضغط على الرئيس السابق حتى يتنحى، وهي التي قررت محاكمته محاكمة عادلة وعلنية. وشاهد الملايين مبارك ونجليه ووزير الداخلية السابق وأركان وزارة الداخلية في قفص واحد، يحاكمون وفق الإجراءات القانونية الراسخة التي تطبقها بكل اقتدار محكمة الجنايات برئاسة مستشار مشهود له بالقدرة على التطبيق الحاسم والمنصف للقانون. غير أن هذه المحاولة الخائبة لدق إسفين بين الشعب والجيش، التي شارك فيها للأسف مثقفون متطرفون ممن قفزوا على قطار الثورة المنطلق لم تنجح، بعدما تبين أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة جاد تماماً في تطبيق خطة الطريق التي ستفضي إلى تسليم الحكم إلى حكومة منتخبة بعد الانتهاء من الانتخابات. وأخطر من ذلك فقد برزت مشكلة المظاهرات المليونية والاعتصامات في ميدان التحرير. وإذا كان صحيحاً أن التظاهر والاعتصام أصبح حقاً من الحقوق التي رسختها ثورة 25 يناير، إلا أن هناك فرقاً حاسماً بين الثورة والفوضى. وقد جنحت بعض المظاهرات والاعتصامات إلى الفوضى ومن أبرز مظاهرها إغلاق ميدان التحرير أمام حركة السيارات، وإغلاق مجمع التحرير عدة أيام قبل فتحه من جديد، مما عطل مصالح المواطنين، وأخطر من ذلك كله قطع بعض الطرق العامة مثل طريق "السخنة القاهرة" مما دفع بالقوات المسلحة إلى فتحه بالقوة. تماماً مثلما فضّت القوات المسلحة اعتصام ميدان التحرير بالقوة، بعد أن تحول إلى ميدان يعج بالفوضى، وتقوم فيه المعارك بين شباب الثوار و"البلطجية". ومن أعجب العجب أن ينتقد بعض المثقفين الانتهازيين من أدعياء الثورة ما حدث، وكأنه يمكن فض الاعتصام بغير استخدام القوة! مع أنه طلب من المعتصمين مراراً أن يغادروا الميدان ورفضوا رفضاً قاطعاً. هذه حوادث جرت تحت أعيننا وبينتها شاشات التليفزيون، غير أن الأخطر منها هو ظاهرة المظاهرات المليونية، التي ترتب عليها انقسام خطير بين القوى السياسية التي دعمت الثورة ودافعت عن مشروع تغيير النظام. فالمظاهرة المليونية التي اتفق على أن تتم في ميدان التحرير بين القوى الليبرالية والقوى الدينية لإثبات الوحدة بينها، وبدون رفع شعارات خاصة، سرعان ما تحولت إلى مظاهرة سادتها الشعارات الدينية التي تدعو إلى تطبيق الشريعة وإنشاء دولة دينية، مما أدى إلى انسحاب عديد من ممثلي الائتلافات الثورية الشبابية احتجاجاً على نقض الاتفاق. وهذه الواقعة تعد في ذاتها انقلاباً على مبادئ الثورة، التي ركزت على وحدة الشعب بكل أطيافه السياسية ضد النظام السلطوي السابق. غير أن المظاهرة التي سببت الانقسام وفتحت أبواب الصراع السياسي التي قادها السلفيون و"الإخوان المسلمون"، أدت إلى اتجاه ائتلافات الثورة والأحزاب السياسية الأخرى إلى التحالف مع الصوفيين لتنظيم مظاهرة مليونية أخرى يوم غد الجمعة الموافق 12 أغسطس 2011، للرد على المظاهرة الأولى تحت شعار ضرورة إقامة التوازن بين القوى السياسية المختلفة، حتى لا تنفرد قوة سياسية واحدة بالساحة، ولا تستأثر بالتظاهر في ميدان التحرير بكل ما يرمز له من ثورية. ومن المؤشرات كذلك على الانقلاب الذي تم على مبادئ الثورة وأهمها عدم اللجوء إلى القضاء الاستثنائي وأهمية محاكمة أي متهم أمام قاضيه الطبيعي، أن ظهرت دعوات لإعادة تفعيل قانون الغدر وهو قانون قديم صدر منذ سنوات بعيدة حتى يطبق على عدد كبير من السياسيين من أعضاء الحزب الوطني، لمنعهم من ممارسة النشاط السياسي. وهذه الدعوة ليس عليها إجماع، لأن بعض الائتلافات الثورية ترى في تطبيق هذا القانون ممارسة لمحاكمات استثنائية لا تتفق مع عقائد الثورة. غير أنه أخطر من ذلك كله الدعوات الملحة من عديد من ائتلافات الثورة بضرورة تطهير جهاز الدولة الإداري والجامعات والإعلام وحتى القضاء من فلول النظام القديم. والتطهير هنا معناه إعداد قوائم بأسماء الذين سيتم عزلهم من وظائفهم. والواقع أنه يخشى إذا ما طبقت فعلاً هذه الدعوة، أن تؤدي إلى تأسيس "مكارثية" مصرية، ستفضي إلى أن يؤخذ الناس بالشبهات، وبغير توجيه تهم محددة ينص عليها القانون، طبقاً للقاعدة الراسخة أنه "لا جريمة بغير نص". وهذا في حد ذاته ضد قواعد العدل الذي هو أحد المطالب الأساسية لثورة 25 يناير. وبعبارة موجزة فإن ما يحدث في مصر الآن هو بكل تأكيد انقلاب على مبادئ ثورة 25 يناير. ومن ثم تدعو الحاجة إلى ترشيد الخطاب الثوري، وإعطاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزارة الدكتور "عصام شرف" الذي رشحه ميدان التحرير ليكون رئيساً للوزراء الفرصة الكاملة لإعداد البلاد للانتخابات القادمة التي ستفرز القوى السياسية المعبرة فعلاً عن الإرادة الشعبية، ونرجو أن تكون هذه الإرادة ممثلة لتطلعات ائتلافات الثورة في تأسيس دولة مصرية ديمقراطية حقاً.